استراتيجيات وأدوات التدخل المهني:
مرة أخرى فإننا نذكِّر بأن طريقة التدخل المهني للخدمة الاجتماعية في نطاق التصور الغربي يمكن توصيفها في كلمات قليلة على الوجه التالي:
1- تقديم الموارد الناقصة التي يمكن أن تشبع حاجات العملاء.
2- إصلاح العلاقات الاجتماعية المضطربة.
3- مساعدة العملاء على أداء أدوارهم الاجتماعية .
4- تقديم المعونة النفسية والتشجيع الكافي لطمأنة العملاء أنهم ليسوا وحدهم.
فإذا نظرنا إلى الكيفية التي يتم من خلالها تقديم تلك الخدمات لوجدنا على رأسها :
ا- تكوين "العلاقة المهنية" بين الأخصائي والعميل ، وهي علاقة مساعدة مهنية تقوم على تقبل العملاء كما هم ، مع إشعارهم بالرغبة في مساعدتهم ، مما يمهد الطريق أمام تقبل العملاء للخطة العلاجية، فهي بمثابة المعبر الذي تنتقل فوقه خدمات المؤسسة ودعم المجتمع.
ب - استخدام موارد المؤسسة والمجتمع في إشباع حاجات العميل الدنيوية ، سواء في ذلك المجتمع المحلي (القرية-الحي- المدينة) أو المجتمع الأكبر ، تستوي في ذلك الموارد الحكومية أو غير الحكومية.
أما أساليب ومهارات التدخل أو العمل المباشر مع العملاء في هذا الإطار فهي متعددة يذكر منها مهارات الدراسة ، الملاحظة ، فن المقابلة ، الاتصال اللفظي وغير اللفظي ، القدرة على فهم المشاعر، القدرة على المشاركة الوجدانية ، تقدير نقاط القوة في الشخصية، فهم خريطة المؤثرات البيئية ، القدرة على وضع الخطط العلاجية ، التوضيح ، التشجيع والتدعيم ، المواجهة ، الوساطة ، الدفاع ، المفاوضة ، المساندة ، فهم المجتمع المحلي ، القدرة على تعبئة الموارد لمصلحة العميل ، تعديل البيئة ، المتابعة، التقويم .
ورغم أهمية هذه الاستراتيجيات العامة وتلك الأساليب الفنية فإنها ليست كافية للاستجابة لمتطلبات العمل المهني في التصور الإسلامي على الوجه الذي رأيناه في الفقرات السابقة حول نتائج عملية تقدير الموقف ، والتي تأخذ الأبعاد الروحية في الاعتبار ، ومن هنا فإنها - مرة أخرى بحاجة إلى الاستكمال في بعض الجوانب كما أنها حتى بالنسبة لما يعتبر منها ذا فائدة كبيرة لابد من أن توضع في نصابها في الموقع الذي يمليه التصور الإسلامي .
فمن الواضح ابتداء أنه ينبغي لنا أن نستصحب نتائج عملية تقدير الموقف بالصورة التي انتهينا إليها في الفقرات السابقة ، وهنا فإننا سنتبين أن كل فئة من الفئات الثلاثة من العملاء ستتطلب نوعا مختلفا من التدخل المهني الذي يلائمها ، ولعله قد تبين لنا أن هذه الأنواع الثلاثة تتدرج فيما بينها تصاعديا فيما يتصل بدرجة حاجتنا للتركيز على نوع صلتها بالله كأساس للمساعدة على مواجهة النواحي الإشكالية في موقفها . إن النوع الأول - على العكس من النوعين الثاني والثالث - سيُعتبر نوع الحياة الروحية عنده من نقاط القوة التي يمكن استثمارها لزيادة فاعليته في مواجهة الموقف أو الصعوبة التي صادفته ، ومن هنا فإننا سنمر على هذا النوع مرورا سريعا لكي نركز على النوع الثاني باعتباره أكثر حاجة للمساعدة في هذه الجوانب الروحية من النوع الأول ، ولما كان النوعان الثاني والثالث من جهة أخرى مشتركين في معظم الخصائص العامة مع حاجة الأخيرة لنوع إضافي من المساعدة لتصحيح الجوانب الاعتقادية فإننا - لتجنب التكرار - سنركز في النوع الثالث على هذه المشكلة الإضافية مكتفين بما أوردناه مما هو مشترك في التعامل مع النوع الثاني من العملاء . ونود أن نعيد التأكيد هنا مرة أخرى على أن الاستراتيجيات والأدوات التي نصفها فيما يلي لا تستبعد الاستراتيجيات والأدوات الفنية التقليدية ، ولكنها من جهة تستكملها ومن جهة أخرى تضعها في مواضعها الملائمة بعد أخذ الأبعاد الروحية في الاعتبار .
النوع الأول : حالة سلامة الاعتقاد ، مع حياة القلب ، وصفاء الفطرة:
يلاحظ أن الأخصائي لا يُتوقع أن يواجه صعوبة كبيرة في العمل مع مثل تلك الحالات للأسباب الآتية:
1- أن هذه الحالات لن تكون معقدة بتفاعلات نفسية ، أو مشوشة بمضاعفات وجدانية منعكسة عن المشكلات أو الصعوبات الدنيوية المعتادة.
2- أن تعامل هذا النوع من الأشخاص مع الأخصائي أو مع غيره يتصف عادة بالاستقامة والبعد عن الالتواء ، مما يُتوقع معه التزام العميل بالصدق ، و إمكانية الاعتماد على التزامه بالخطط العلاجية .
3- أن عناصر القوة في الشخصية تكون كبيرة مما يتيح مدى أوسع من فرص العمل مع العميل لتجاوز الموقف الحالي .
وهنا تتمثل الاستراتيجية المستخدمة في تقديم العون المادي أو المتصل بالعلاقات الاجتماعية أو غيرها بحسب الحاجة:
1- ففي حالة احتياج العميل إلى موارد مادية فإن من المناسب هنا الاكتفاء بتقديم " العون المادي" حيث لن توجد عادة مضاعفات انفعالية أو روحية من النوع الذي يتطلب معونة أكثر عمقا .
2- وفي حالة مواجهة العميل لصعوبات في العلاقات مع آخرين نتيجة لعدم كفاية خبراته ومهاراته الاجتماعية ، فإن من المناسب هنا تقديم العون الاجتماعي المتمثل في " التدريب على المهارات الاجتماعية " اللازمة لمساعدته على مواجهة تلك الصعوبات .
3- وقد يحتاج العميل من هذا النوع إلى " معونة تيسيرية " من نوع التوسطBrokerage أو الدفاع Advocacy أو المفاوضة Negotiation عند التعامل مع المنظمات الرسمية التي يخرج التعامل معها عن نطاق خبراته السابقة .
النوع الثاني: حالة صحة الاعتقاد دون هيمنته على القلب:
إن مثل هذا العميل عندما يواجه مشكلات أو صعوبات في حياته الدنيوية ، أو عندما يعانى - دون إدراك كامل - من الآثار المترتبة على عدم التزامه القلبي والسلوكي بما "يعرف" أنه الحق يكون في حالة من القلق والاضطراب والتردد ، فهو قد يتذكر ما يقضى به سلامة اعتقاده فيصبر على مواجهة المواقف الصعبة حينا ، ولكنه يعود للجزع أحيانا كثيرة لأنه يسلِّم نفسه لنفسه أكثر من تسليمها لخالقه ومولاه ، والصعوبة الأولى التي تواجه الأخصائي الاجتماعي المسلم في العمل مع هذا العميل تكمن في مقاومته الشديدة للاعتراف بالتقصير في حق نفسه وفي حق ربه ، أو في الاعتراف بأن الخطة التي اختطها لنفسه في الحياة تبتعد في جوانب جوهرية عما يُلزمه به اعتقاده الصحيح ، وكلما فاتحة الأخصائي في هذا الأمر فإن العميل يسابقه في ترديد " الأقوال " التي تعبر عن عقيدة صحيحة ، مع دفاعات شديدة يحاول أن يمنع بها نفسه أو الأخصائي من النفاذ إلى حقيقة ولائه القلبي غير المستقر .
ويرجع السبب في مثل هذا التشبث الزائد بالاعتمادية على النفس والثقة بها - الذي يحول دون كمال الاستسلام لله عز وجل والاعتماد عليه والانطراح في ساحة رحمته - إلى ما سبق أن عرضناه حول الطبيعة الإنسانية، فلقد ذكرنا فيما سبق أن الإنسان مكون من مادة (بدن) وروح ، وأن المادة تأنس بالإشباع المادي البدني ، وتطمئن بما تجمعه وتكنـزه مما تظنه يضمن لها استمرار بقائها ووجودها ويحول دون فاقتها واحتياجها إلى الناس ،وعلى العكس فإن الروح - من جانب آخر - إنما تأنس "فقط" بالقرب من الله ، وتطمئن بالصلة به سبحانه ، ولكن هذه الصلة بالله - والعبادات والطاعات طريقها - ليست من نفس الطبيعة المادية التي يتشوف لها البدن - والنفس بالتبعية .
والإنسان بحكم قرب الإشباعات الدنيوية من نفسه على هذا الوجه يميل إلى الظن بأن السعادة تتحقق طرديا مع ازدياد إشباع مرغوبات النفس ، بمعنى أنه كلما ازداد إشباع الحاجات البدنية الدنيوية كلما ازدادت السعادة ، ولا يخطر بالبال - إلا بتوجيه وتعليم وخبرة شخصية وتدريب - حقيقةَ أن الإنسان كائن معقد يحوى إلى جانب البدن (الذي يسير وفقا للقاعدة المذكورة) روحا قد تسير في "عكس الاتجاه" بمعنى أنه كلما أغرق الإنسان وتجاوز في إشباع حاجاته الدنيوية كلما قلت سعادته " الكلية " وكلما قل الإشباع ازدادت السعادة الكلية (أي التي تشمله كله ككائن حي مكون من بدن وروح).
وإذن فإن العلاج هنا يتمثل أساسا في معاونة العميل على مقاومة أنس النفس (الجبلي) بالماديات لإفساح المجال أمام أنس الروح بالعبادات والطاعات التي تفتح الطريق أمام حسن الصلة بالله سبحانه وتعالي ، ومن هنا يصبح " التحكم في النفس" والسيطرة عليها لتوجيهها نحو خدمة الإنسان الكلى(بدنا وروحا) بدلا من خدمة حاجات البدن وحدها هو المفتاح لحل الموقف الإشكالي، فبه يتمكن المرء من الإمساك بزمام نفسه وقيادتها في الطريق الذي يحييها ومن ثم يتمكن من الإمساك بزمام حياته كلها ليوجهها بنعمة الله إلى ما يرضى الرب ، ولكن هذا يتطلب عملية إعادة-تعليم ضد التيار كما يقولون ، أي تغيير التوجه البشرى ضد ما تهواه النفس ، أي تحويلها من الاعتماد على المخلوقين (الذات- الآخرين) لجلب ما يظن الإنسان أنه ينفعه (المال- الجاه- الشهوات)، إلى الاعتماد على الله سبحانه وتعالي والاطمئنان إلى أن في ذلك أكبر ضمان لتحقيق كل المرغوبات على الوجه الذي يرضى الرب ويحقق أكبر حاصل ممكن من الخير الكلي في الوقت ذاته.
ويتطلب التعامل مع هذا النوع مع العملاء استخدام استراتيجية متعددة الأوجه ، تستهدف معاونة العميل على إعادة النظر في حياته واستعادة توازنه ، يتولى الأخصائي في إطارها الأخذ بيد العميل خلال كل مرحلة أو وجه من أوجهها على النحو التالي:
1- إنشاء العلاقة المهنية القائمة على الأخوة في الله بين الأخصائي والعميل:
إن "العلاقة المهنية" بتوصيفها التقليدي لا تستوعب ما يتطلبه المنظور الإسلامي للممارسة من اهتمام الأخصائي بالعميل كاهتمام الأخ بأخيه ، الذي يرعى مصلحته ويرقب الله فيه، والحق أن عمق التأثير المرغوب في العملاء لمساعدتهم ليس فقط على مواجهة مشكلاتهم وصعوباتهم الحالـّة بل ومساعدتهم أيضا على إصلاح حياتهم وإقامتها على طريق الله ، يتطلب التركيز منذ البداية على إقامة هذا النوع الخاص من العلاقة المهنية - علاقة في الله ولله وبالله. فالأخصائي يتخذ زمام المبادرة في إنشاء هذه العلاقة منذ المقابلة الأولى مع العميل ، ثم هو يتعهدها ويرعاها طول الوقت ، لأنها هي أساس النجاح في تحقيق الأهداف النبيلة التي يريد الأخصائي تحقيقها ، وذلك للاعتبارات الآتية:
ا- أنها حجر الزاوية في تقبل العميل للأخصائي.
ب- وأنها الأساس في قبول تدخل الأخصائي فيما يعتبر من أخص وأخفي جوانب حياة الإنسان: الجانب الروحي - الاعتقادي.
ج- وهي الأساس في تقبل الخطة العلاجية من جانب العميل.
د- وهي من العوامل المساعدة على التزام العميل بتنفيذ الخطة العلاجية.
ولكن هذا المستوى من " العلاقة المهنية" بهذا المعنى الموسع يثير التساؤل حول نوع توجه المعالج أو المرشد أو الأخصائي الاجتماعي القادر عليه ، ويشير بوضوح إلى أهمية اختيار أولئك المهنيين وإعدادهم الإعداد الكافي ليكونوا هم أنفسهم من أهل السلامة في الاعتقاد، والحياة في القلب ، والاستقامة في السلوك ، وكلما اقترب المهنيون المساعدون من هذا النموذج المثالي كلما ازدادت احتمالات نجاحهم في العمل من منظور إسلامي.
وهناك قضية أخرى تتصل بكيفية تعامل الأخصائي الاجتماعي المسلم مع ما قد يحدث من رفض بعض أنواع العملاء للتعاون مع الأخصائي على هذا المستوى المتعمق الذي يتطلبه العمل من المنظور الإسلامي ، وهنا فإننا نقترح أن يكون لدى الأخصائي الاستعداد دائما للعودة بالتعامل مع العميل- في مثل هذه الحالة - إلى مستوى التعامل الأكثر سطحية والذي ألفناه في الكتابات التقليدية للخدمة الاجتماعية والذي يقتصر على الأمور الدنيوية القريبة ، على أن يتم هذا الانتقال - إذا حدث - بنفس راضية ودون أي غضاضة أو مرارة من جانب الأخصائي ، انطلاقا من الإيمان بأن " الهدى هدى الله" وبأن الله سبحانه وتعالي " يعطى الدنيا من يحب ومن لا يحب ولا يعطى الدين إلا لمن أحب" ، وضمانا لعدم انقطاع العلاقة بين الأخصائي والعميل ، بل إن من الممكن القول أن عملية الرجوع إلى المستوى المألوف من التعامل بنزاهة وتجرد من جانب الأخصائي لا يزيد العميل إلا اطمئنانا إليه ، وقد يكون هذا هو الضمان لعودة العميل لطلب المعونة في الوقت الذي يناسبه ، وبالإيقاع الذي تحتمله حالته.
2- مساعدة العميل على الاعتراف بأنه يواجه مشكلة لا يستطيع حلها وحده ، ومساعدته على الاعتراف بأنه بحاجة للمساعدة ، والاعتراف بأن حل المشكلة يتطلب ما هو أكثر من مجرد الحصول على المساعدة السطحية المألوفة ، فقبول العميل بكل هذه الحقائق شرط لابد منه لتوافر الرغبة والعزم على تحقيق التغييرات الجذرية التي يتطلبها العلاج من المنظور الإسلامي ، ولعل مما يعين الأخصائي في هذه المهمة أن يدرك أن العميل ما دام يواجه في الوقت الحالي صعوبة أو ضائقة أو مشكلة فإنه يكون مهيأ للتخلي عن حال الشعور الزائف بالسيطرة على وجوده (أن رآه استغنى) الذي يرتبط في أحوال السلامة بشيء من الكِـْبر الذي يعوق الاعتراف بالقصور أو التقصير ، ومن هنا فإن الموقف الإشكالي قد يكون من مظاهر رحمة الله به ، إذ أنه يعطيه الفرصة لرؤية الواقع من منظور جديد ، فيقبل المساعدة في توجيه حياته بشكل أكثر عمقا في اتجاهات أكثر صحة وأقرب إلى تحقيق رضاء الله سبحانه وتعالي .
3- البدء في إجراءات تقديم العون والمساعدة لإشباع الحاجات الدنيوية (المادية والنفسية والاجتماعية) التي تتطلبها مواجهة الموقف العاجل الذي يعانى منه العميل على الوجه المعهود في الممارسة المهنية التقليدية، وذلك حتى يطمئن العميل من جهة لرغبة الأخصائي الحقيقية في مد يد العون له ، وحتى لا يتوهم أن العمل من منظور الإسلام يتنكر لإشباع الحاجات الإنسانية الطبيعية أو ينكرها .
4- مساعدة العميل - في الوقت ذاته - على إعادة النظر في الطريقة التي يسوس بها حياته حاليا ، وإدراك العلاقة بين الطريقة التي يحيا بها وبين الوقوع في المشكلات ، ليتبين له أنه يسير في طريق مسدود، طريق الاعتماد على البشر بدلا من الاعتماد على رب البشر ، وليتبين له أنه لا خيار أمامه - إذا لم يحدث التغيير المرغوب - إلا استمرار السير في طريق الشقاء النفسي والمعاناة الروحية ، في مقابل ما يمكن أن يحققه من خير بالتغير والسير في طريق التوكل على الله سبحانه وتعالي والرضا بحكمه - على أساس أنه لا يكون في ملكه إلا ما يريد ، وأنه لا يرضى لعباده إلا الطاعة والامتثال لأمره وإلا خذلهم ووكلهم إلى أنفسهم والي حياة من الضياع والخسران في الدنيا وفي الآخرة...، فإذا أراد الله للعميل التوفيق فأراد معرفة الطريق ، فيتم الانتقال معه إلى الخطوة التالية ، وإن أعرض ونأى بجانبه ولم يُرد إلا الحياة الدنيا ، فإن الأخصائي - بعد أن بذل جهده - لا يكون أمامه إلا التسليم بموجب (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء) (القصص:56) ، ثم تنبيه العميل إلى أنه على استعداد دائما للمساعدة ، والدعاء له بخير ، مع تجنب ما يوحي بالإزراء به أو توجيه اللوم إليه.
5- بدء برنامج "التنمية الروحية" المتدرجة مع العملاء الذين استجابوا لما يحييهم ، والذي يستهدف إزالة الران الذي أحاط بالقلب ، واستعادة صفاء الفطرة ونقائها ، والذي يتم من خلال التدريب على القيام بمقادير محسوبة من كل من العبادات والطاعات ، في إطار مواقف الحياة العادية، ويلاحظ أن نجاح هذا البرنامج في هذه المرحلة مرهون باقتناع العميل بحاجته إلى التغيير ، واقتناعه بحاجته إلى الانتقال من الحياة التي تركز على الحاجات الدنيا وحدها إلى الحياة التي تركز على الحاجات " الكلية " للإنسان - أي إلى إحياء روحه مع عدم التنكر لحاجات بدنه ، وهذا يقتضي مساعدة الأخصائي للعميل على اختيار المستوى الملائم كما ونوعا من بين الوسائل والأدوات الآتية ، والسير به بشكل متدرج في معارجها بحسب وسعه ووفق درجة استعداده - في نفس الوقت الذي يتم فيه التعامل مع الموقف الإشكالي ، ويتم فيه تقديم الخدمات المادية والعينية المناسبة لمن هم في مثل حالته:
أ- العبادات: يلاحظ أن العبادات عموما لا يترتب عليها أي إشباع للحاجات البدنية أو الدنيوية ، وأنها تتضمن على العكس من ذلك توقفا " محسوبا " ومتكررا بصفة منتظمة عن ممارسة الحياة العادية وعن إشباع الحاجات المادية ، وهذا يؤدى بالتدريج إلى إفساح المجال أمام سيادة الروح على متطلبات الوجود الأخرى في تلك الأوقات ، فالإنسان يدخل في العبادة ولنضرب لها مثلا هنا بالصلاة - يدخلها كائنا دنيويا عاديا يسود تيار الشعور عنده الانشغال بمتطلبات البقاء الدنيوية المعهودة ، ولكنه مع الدخول في نية الصلاة ثم البدء في القراءة يبدأ في الالتفات عن هذا النمط الدنيوي المعتاد إلى مناجاة ربه ، مشبعا بذلك لحاجات روحه ، ويتدافع النوعان من الوعي (الانشغال بما هو أرضي دنيوي ، والتطلع إلى ما هو أكثر دواما : الارتباط بالله عز وجل ) وكلما كسب أحدهما أرضا ازدادت قدرته على مدافعة الآخر وهكذا ، فإذا صدق العزم فإن الموقعة تنتهي وقد ازدادت الروح هيمنة على الحياة، وكلما اعتاد الإنسان الاستغراق في العبادة اعتاد سيطرة الروح على متطلبات البدن ، واعتاد تحمل المشاق النفسية والبدنية التي يتطلبها حسن التعامل مع الناس ، وارتفعت عنده عتبة الإحباط النفسي ، فابتعد عن تجاوزات الجبلة الطينية من جزع وهلع وشح وكبر ، فيحسن توافقه مع نفسه ومع الناس نتيجة لارتقائه في مدارج السالكين إلى الله سبحانه وتعالي .
ب- الطاعات: تتفق الطاعات العملية والأعمال الصالحات (مثل صلة الأرحام ، وإكرام الجيران والضيفان ، والسعي في مصالح الضعفاء) مع العبادات في أنهما تتطلبان جهادا للنفس لحملها على إفساح المجال للروح ، والسير في غير طريق الإلف والاعتياد ، وغير طريق الراحة البدنية والدعة ، ولكنهما تختلفان من حيث أن العبادات تَقصد بطريق مباشر إلى إخلاء تيار الشعور من الاهتمامات الدنيا صعودا إلى الاهتمامات الأعلى مع حد أدني من اشتغال البدن ، في حين أن الطاعات والأعمال الصالحات تحتاج لكي تتم اشتغال البدن بكليته مع احتلال الاهتمامات العليا لتيار الشعور ولو بشكل جزئي، لأن الطاعات لا يمكن أن تبدأ أصلا ولا أن تستمر إلا بنية وبدافع من قوة روحية "واعية" مريدة لإتمام أعمال الخير ، وبهذا فإن العبادات والأعمال الصالحات إنما هما طريقان لتحقيق نفس الهدف الواحد ، ألا وهو إحكام هيمنة الروح (الساعية إلى الصلة بخالقها) على الحياة " الكلية" للإنسان ، بحيث تبتعد به عن استمرار ذلك الميل الطبيعي إلى التجاوز الناتج عن الخضوع لمطالب الجسد الدائمة الإلحاح.
ج- الذكر والتلاوة: معلوم أن العقل البشرى لا يكف عن العمل والتفكير ، والعقل مناط الوعي ، وحجم النشاط العقلي الواعي يفيض كثيرا عما يحتاجه التفكير فيما تتحقق به مطالب البقاء الدنيوية ، وفائض النشاط العقلي إما أن ينفق فيما خُلق له من ذكر الله سبحانه وتعالي وتسبيحه وتمجيده ، أو أن يهدر في التفكير فيما هو أدنى من ذلك كثيرا ، ولذلك فقد نهي القرآن الكريم عن الغفلة وتوعد الغافلين بأشد العقوبات ، لأن الغفلة قمة النكول عن القيام بحقوق الخالق الذي خلق العباد لطاعته وذكره وتسبيحه ، دون أن يحرمهم في الوقت ذاته من التفكير وإعمال النظر فيما يصلح به أمرهم من شئون الدنيا ، ومن هنا فإن معاونة الأخصائي للعميل على مداومة الذكر وتعهد القرآن الكريم بالتلاوة والتدبر تعنى مساعدته على الارتباط المتواصل بخالقه من الناحية العقلية - ومن جهة الوعي - مما يدعم تأثير العبادات الطاعات ، ومما يؤثر في القلب فيلزمه الاطمئنان والاستقرار بدلا من التشتت والاضطراب (وننـزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين) (الإسراء: 82).
6- إعادة النظر في المشكلة الأصلية وفي طرق الاستجابة لمواقف الحياة في ضوء جديد : إذا نجحت جهود الأخصائي والعميل في تحقيق مستوى أرقى من النمو الروحي عند العميل فإنه يكون الآن مستعدا لما يلي:
أ- مراجعة المشكلة أو الموقف الذي احتاج بسببه إلى المساعدة ، والتعرف على الأسباب الحقيقية لمشكلاته الآن وقد تخلص بفضل الله من الانفعالات التي تكبل العقل أو تشوش عليه، ثم اتخاذ الإجراءات الواقعية لمواجهة المشكلة أو الموقف وفقا للخطة العلاجية التي يتفق عليها مع الأخصائي.
ب- مراجعة توجهاته في الحياة بطريقة جذرية ، واستعادة توازنه فيها ، بما يكفل له بإذن الله سيطرة على نفسه ليسير في طريق الله ضمن وفد عباده الصالحين .
7- التدعيم والتثبيت: إن تحقيق أي مرتبة أرقى من مراتب الحياة الروحية لا يعني الثبات عليها ، فالقوى المؤثرة إيجابا وسلبا في التكوين الإنساني فعالة متحركة على الدوام ،ومن هنا فإن من الضروري معاونة العميل على حماية مواقعه وتثبيت دعائمها، بل والعمل الدائب نحو كسب مواقع جديدة وذلك من خلال :
أ- التأكيد على الثقة في الله جل وعلا ، وتوقع التوفيق منه سبحانه وتعالي لمن أقبل على سلوك طريقه ، والاطمئنان إلى معونته ونصره لمن أطاعه واتقاه ، مما يؤدى إلى تثبيت قلب العميل ، ومعاونته على الاستمرار على النهج حتى يلقى ربه غير مبدل.
ب- توقع الدعم من ملائكة الرحمن لأولئك الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا ، بما يزيد الثقة في سلوك الطريق إلى الله سبحانه وتعالي ، مع الِبشْر أو التفاؤل الذي يرفع الروح المعنوية ، ويقوى المناعة الداخلية ، ويساعد على بلوغ الغاية.
ج- التحذير من نزغات الشياطين ، والتعرف على الطرق التي يتخذها الشيطان وقبيله لإضلال البشر ، وبيان الطرق التي يتم التحصن بها من تأثيره، وذلك لمساعدة العميل على إغلاق أبواب النكوص والتراجع ، ثم مساعدته على الثبات أو المضي قدما بإذن الله.
النوع الثالث: حالة فساد الاعتقاد وسقم القلوب:
يتمثل العلاج في هذه الحالة أساسا في العمل على تصحيح العقيدة أولا حتى ينفتح الباب أمام إمكانية إصلاح القلب ، ويتضمن ذلك تحديد مناطق الاختلال في الاعتقاد ، التي ترتب عليها متابعة الأهواء والشهوات ، التي تسببت بدورها في حدوث المشكلات السلوكية التي يواجهها العميل ، ثم العمل على إزالة تلك الاختلالات ، وإعادة-تعليم العميل ما ينبغي أن يحل محلها من سليم الاعتقاد سواء قام الأخصائي بذلك بنفسه أو بالتعاون مع أهل العلم ممن هم أقدر منه على ذلك الأمر. وعلى كل حال فإن العمل مع هذا النوع من العملاء يتطلب إلماما كافيا من جانب الأخصائي بأشكال الانحرافات العقدية الهامة الشائعة في منطقة عمله ، كما يتطلب تمرسا في فهم الجوانب المتصلة بها وبالرد عليها في نطاق علوم أصول الدين. ويلاحظ أنه بعد إتمام مرحلة تصحيح العقيدة من الشركيات والبدع والخرافات ، فإن على الأخصائي الاجتماعي المسلم أن يسير في تدخله المهني وفقا للاستراتيجيات التي سبق وصفها بالنسبة للعملاء من النوع الثاني ، والتي لا نحتاج إلى تكرارها هنا مرة أخرى.
خاتمــة
لقد حاولنا في هذه الورقة تقديم مثال عملي لتطبيق "المرحلة الأولى" من مراحل منهجية إسلامية المعرفة على أحد الموضوعات المهنية المتخصصة في محيط الخدمة الاجتماعية وغيرها من مهن المساعدة الإنسانية ، وبالتالي فإنه سيكون من الميسور على القارئ المتخصص متابعة الموضوع سواء من جهة "المحتوى" أو من جهة "إجراءات التطبيق" للمنهجية، أما القارئ غير المتخصص فقد لا تعنيه بعض تفصيلات المحتوى ، والطبيعي أن ينصرف الاهتمام في هذه الحالة إلى عملية التطبيق وإجراءاتها، ولهذا فإننا قد اختططنا طريقا وسطا في العرض رجونا أن يحقق هدفنا المحدود، فلم نقصد استيفاء الموضوع عرضا كما ينبغي لحاجة القارئ المتخصص ، ولم نهتم كثيرا بالتوثيق التفصيلي للمادة المعروضة حتى لانقطع السياق أمام القارئ غير المتخصص ، وذلك اعتمادا على أن من شاء الرجوع إلى المادة العلمية التفصيلية من المتخصصين فيمكنه الرجوع إلى بحث طويل بعنوان "التوجيه الإسلامي للخدمة الاجتماعية" أرجو أن يلقى طريقه إلى النشر قريبا بإذن الله.
ولكن من الضروري أن نؤكد الآن مرة أخرى على ما سبق أن ذكرناه من قبل من أن هذه المحاولة "جزئية" بمعنى أنها تقتصر على المرحلة الأولى من المراحل المنهجية لعملية إسـلامية المعـرفة ألا وهي مرحلة "التنظير" كما قدمنا ، والتي نحاول فيها إيجاد نوع من التكامل بين معطيات الوحي ومنجزات الخبرة الإنسانية بالنسبة لهذا الموضوع ، وأن نؤكد أن مثل هذه المحاولة إنما تمهد السبيل أمام المرحلة الثانية ألا وهي مرحلة "البحوث والممارسة" للتثبت من القيمة العلمية والعملية لهذا الاجتهاد البشري من جهة ثم لتطويره و تفصيل محتواه وزيادة تمايزه من جهة أخرى ، وذلك على الصورة المتعارف عليها في حركة العلم وتقدمه الدائب.
ولقد يكون من المفيد أن نعطي هنا بعض الأمثلة لبعض التساؤلات والقضايا المستمدة من هذا الإطار التصوري المتكامل الذي عرضنا بعض عناصره في الصفحات السابقة والتي يمكن استنباط فروض منها يتم اختبارها في "مشروعات بحثية" ، وكذلك بعض الأمثلة للقضايا التي يمكن اختبارها من خلال "الممارسة المهنية" في العمل المباشر مع العملاء الذين يواجهون هذا النوع من المشكلات. فأما بالنسبة للتساؤلات والقضايا القابلة للاختبار فمن أمثلتها مايلي :
1- هل توجد علاقة بين درجة الارتقاء الروحي (أو درجة التدين) عند الفرد وبين احتمال (عدم) الوقوع في المشكلات الشخصية أو النفسية/الاجتماعية ؟
2- وإذا ثبت وجود هذه العلاقة فأي مكونات هذا المفهوم أكثر ارتباطا (قدرة على التنبؤ) بالوقاية من المشكلات الشخصية أو النفسية/الاجتماعية ( أداء العبادات ، أنواع الطاعات الملموسة ، الاتجاهات النفسية المميزة للارتقاء الروحي …) ؟
3- ماهي العوامل التي تفسر "تكرار" وقوع الأفراد في المشكلات الشخصية أو النفسية /الاجتماعية ، وما هو موقع العوامل الروحية بين هذه العوامل ؟
4- كيف تتفاعل العوامل الروحية مع بقية المتغيرات السوسيولوجية الأخرى لإحداث أعراض المشكلات الشخصية النفسية/الاجتماعية ؟
5- مع ثبات درجة الارتقاء الروحي : هل يتناسب احتمال الوقوع في المشكلات الشخصية أو النفسية/الاجتماعية طرديا مع نقص إشباع الحاجات الدنيوية التي يعتبرها الفرد أساسية.
6- دراسات تقويمية لتقدير مدى فاعلية العلاج من المنظور الإسلامي في مواجهة أنواع محددة من المشكلات : السلوك العدواني ، المشكلات الدراسية ، الجريمة ، إدمان المخدرات … الخ ؟
7-دراسات تقويمية لتقدير مدى فاعلية العلاج من المنظور الإسلامي مع أنواع العملاء : بحسب السن (الأحداث ، المراهقون ، البالغون) ، نمط المعيشة (الريف ، الحضر) ، التعليم (المتعلمون ، غير المتعلمين).
8-دراسات تقويمية لتقدير مدى فاعلية العلاج من المنظور الإسلامي بحسب درجة حدة المشكلة التي تم تحويل العميل بسببها.
وأما بالنسبة للقضايا التي يمكن اختبارها والممارسات التي يمكن بلورتها تطويرا للنموذج الإسلامي في التدخل المهني من خلال "الممارسة المهنية" في العمل المباشر مع العملاء الذين يواجهون هذا النوع من المشكلات فمن أمثلتها :
1- إلى أي مدى يستجيب العملاء لمحاولة الأخصائي التعمق لتقدير الموقف فيما يتصل بنوعية حياتهم الروحية.
2- ماهي تحديدًا أشكال وصور المقاومة التي يبديها العملاء من النوع الثاني لجهود الأخصائي عند محاولة مساعدتهم على إدراك وجه الارتباط بين مشكلاتهم وبين نوعية حياتهم الروحية.
3- ماهي الأساليب الفنية التي يمكن أن يتبعها الأخصائي عند ظهور كل صورة من صور المقاومة .
4- حصر ألوان الاحتياج والقصور المحددة التي عادة ما تواجه العملاء من النوع الأول ، وتحديد أنسب الأساليب التي تستخدم في معاونتهم.
5- تصنيف العملاء من النوع الثاني إلى فئات أكثر تفصيلا بحسب درجة النقص في هيمنة الاعتقاد على الوجدان والسلوك ، ودراسة أنسب الأساليب للتعامل مع كل صنف.
هذه فقط بعض الأمثلة التي ذكرت بغرض الدلالة على الاتجاه الذي يمكن للبحوث والممارسة أن تسير فيه ، وكما ذكرنا فإن نتائج هذه البحوث والممارسات إذ يتم نشرها في الدوريات العلمية المتخصصة ، وإذ يتم مراجعتها ونقدها والحوار حولها بين المتخصصين ، ستمثل البدايات الحقيقية الأولى للمادة العلمية المؤصلة إسلاميا على وجه الحقيقة ، لأنها تكون - عندئذ - قد خضعت للتمحيص ، وتم التأكد من مطابقتها للشواهد والسنن الإلهية في الأنفس والمجتمعات.
والله الموفق والمستعان ، وهو نعم المولى ونعم النصير.
قائمة جزئية بالمراجع
- إبراهيم عبد الرحمن رجب : "التوجيه الإسلامي للخدمة الاجتماعية" بحث قدم في مؤتمر التوجيه الإسلامي
للعلوم ، الذي نظمته رابطة الجامعات الإسلامية وجامعة الأزهر، القاهرة ، إبريل 1992 .
- إبراهيم عبد الرحمن رجب : "منهج التوجيه الإسلامي للعلوم الاجتماعية" المسلم المعاصر، السنة 20،
العدد 80 ، مايو/يوليو 1996.
- أجروس وستانسيو : العلم في منظوره الجديد [1984] ترجمة كمال خلايلي (الكويت : المجلس الوطني
للثقافة والفنون والآداب، 1989).
- إسماعيل الفار وقى: " أسلمة المعرفة " ، المسلم المعاصر، العدد 32 ،1982م - 1402هـ.
- الطاهر بن عاشور: تفسير التحرير والتنوير (تونس : الدار التونسية للنشر، 1984).
- عفاف إبراهيم الدباغ : المنظور الإسلامي لممارسة الخدمة الاجتماعية ، رسالة دكتوراه منشورة، كلية
الخدمة الاجتماعية للبنات بالرياض ، المعهد العالمي للفكر الإسلامي ومكتبة المؤيد بالرياض ،1994.
- محمد محروس الشناوي " الأهداف العامة لمساعدة الأفراد على مواجهة مشكلاتهم النفسية كما تعرضها
نظريات الإرشاد والعلاج النفسي الغربية " ، بحث قدم للندوة الأولى للتأصيل الإسلامي للخدمة الاجتماعية
، المعهد العالمي للفكر الإسلامي ، القاهرة ، 1991.
مرة أخرى فإننا نذكِّر بأن طريقة التدخل المهني للخدمة الاجتماعية في نطاق التصور الغربي يمكن توصيفها في كلمات قليلة على الوجه التالي:
1- تقديم الموارد الناقصة التي يمكن أن تشبع حاجات العملاء.
2- إصلاح العلاقات الاجتماعية المضطربة.
3- مساعدة العملاء على أداء أدوارهم الاجتماعية .
4- تقديم المعونة النفسية والتشجيع الكافي لطمأنة العملاء أنهم ليسوا وحدهم.
فإذا نظرنا إلى الكيفية التي يتم من خلالها تقديم تلك الخدمات لوجدنا على رأسها :
ا- تكوين "العلاقة المهنية" بين الأخصائي والعميل ، وهي علاقة مساعدة مهنية تقوم على تقبل العملاء كما هم ، مع إشعارهم بالرغبة في مساعدتهم ، مما يمهد الطريق أمام تقبل العملاء للخطة العلاجية، فهي بمثابة المعبر الذي تنتقل فوقه خدمات المؤسسة ودعم المجتمع.
ب - استخدام موارد المؤسسة والمجتمع في إشباع حاجات العميل الدنيوية ، سواء في ذلك المجتمع المحلي (القرية-الحي- المدينة) أو المجتمع الأكبر ، تستوي في ذلك الموارد الحكومية أو غير الحكومية.
أما أساليب ومهارات التدخل أو العمل المباشر مع العملاء في هذا الإطار فهي متعددة يذكر منها مهارات الدراسة ، الملاحظة ، فن المقابلة ، الاتصال اللفظي وغير اللفظي ، القدرة على فهم المشاعر، القدرة على المشاركة الوجدانية ، تقدير نقاط القوة في الشخصية، فهم خريطة المؤثرات البيئية ، القدرة على وضع الخطط العلاجية ، التوضيح ، التشجيع والتدعيم ، المواجهة ، الوساطة ، الدفاع ، المفاوضة ، المساندة ، فهم المجتمع المحلي ، القدرة على تعبئة الموارد لمصلحة العميل ، تعديل البيئة ، المتابعة، التقويم .
ورغم أهمية هذه الاستراتيجيات العامة وتلك الأساليب الفنية فإنها ليست كافية للاستجابة لمتطلبات العمل المهني في التصور الإسلامي على الوجه الذي رأيناه في الفقرات السابقة حول نتائج عملية تقدير الموقف ، والتي تأخذ الأبعاد الروحية في الاعتبار ، ومن هنا فإنها - مرة أخرى بحاجة إلى الاستكمال في بعض الجوانب كما أنها حتى بالنسبة لما يعتبر منها ذا فائدة كبيرة لابد من أن توضع في نصابها في الموقع الذي يمليه التصور الإسلامي .
فمن الواضح ابتداء أنه ينبغي لنا أن نستصحب نتائج عملية تقدير الموقف بالصورة التي انتهينا إليها في الفقرات السابقة ، وهنا فإننا سنتبين أن كل فئة من الفئات الثلاثة من العملاء ستتطلب نوعا مختلفا من التدخل المهني الذي يلائمها ، ولعله قد تبين لنا أن هذه الأنواع الثلاثة تتدرج فيما بينها تصاعديا فيما يتصل بدرجة حاجتنا للتركيز على نوع صلتها بالله كأساس للمساعدة على مواجهة النواحي الإشكالية في موقفها . إن النوع الأول - على العكس من النوعين الثاني والثالث - سيُعتبر نوع الحياة الروحية عنده من نقاط القوة التي يمكن استثمارها لزيادة فاعليته في مواجهة الموقف أو الصعوبة التي صادفته ، ومن هنا فإننا سنمر على هذا النوع مرورا سريعا لكي نركز على النوع الثاني باعتباره أكثر حاجة للمساعدة في هذه الجوانب الروحية من النوع الأول ، ولما كان النوعان الثاني والثالث من جهة أخرى مشتركين في معظم الخصائص العامة مع حاجة الأخيرة لنوع إضافي من المساعدة لتصحيح الجوانب الاعتقادية فإننا - لتجنب التكرار - سنركز في النوع الثالث على هذه المشكلة الإضافية مكتفين بما أوردناه مما هو مشترك في التعامل مع النوع الثاني من العملاء . ونود أن نعيد التأكيد هنا مرة أخرى على أن الاستراتيجيات والأدوات التي نصفها فيما يلي لا تستبعد الاستراتيجيات والأدوات الفنية التقليدية ، ولكنها من جهة تستكملها ومن جهة أخرى تضعها في مواضعها الملائمة بعد أخذ الأبعاد الروحية في الاعتبار .
النوع الأول : حالة سلامة الاعتقاد ، مع حياة القلب ، وصفاء الفطرة:
يلاحظ أن الأخصائي لا يُتوقع أن يواجه صعوبة كبيرة في العمل مع مثل تلك الحالات للأسباب الآتية:
1- أن هذه الحالات لن تكون معقدة بتفاعلات نفسية ، أو مشوشة بمضاعفات وجدانية منعكسة عن المشكلات أو الصعوبات الدنيوية المعتادة.
2- أن تعامل هذا النوع من الأشخاص مع الأخصائي أو مع غيره يتصف عادة بالاستقامة والبعد عن الالتواء ، مما يُتوقع معه التزام العميل بالصدق ، و إمكانية الاعتماد على التزامه بالخطط العلاجية .
3- أن عناصر القوة في الشخصية تكون كبيرة مما يتيح مدى أوسع من فرص العمل مع العميل لتجاوز الموقف الحالي .
وهنا تتمثل الاستراتيجية المستخدمة في تقديم العون المادي أو المتصل بالعلاقات الاجتماعية أو غيرها بحسب الحاجة:
1- ففي حالة احتياج العميل إلى موارد مادية فإن من المناسب هنا الاكتفاء بتقديم " العون المادي" حيث لن توجد عادة مضاعفات انفعالية أو روحية من النوع الذي يتطلب معونة أكثر عمقا .
2- وفي حالة مواجهة العميل لصعوبات في العلاقات مع آخرين نتيجة لعدم كفاية خبراته ومهاراته الاجتماعية ، فإن من المناسب هنا تقديم العون الاجتماعي المتمثل في " التدريب على المهارات الاجتماعية " اللازمة لمساعدته على مواجهة تلك الصعوبات .
3- وقد يحتاج العميل من هذا النوع إلى " معونة تيسيرية " من نوع التوسطBrokerage أو الدفاع Advocacy أو المفاوضة Negotiation عند التعامل مع المنظمات الرسمية التي يخرج التعامل معها عن نطاق خبراته السابقة .
النوع الثاني: حالة صحة الاعتقاد دون هيمنته على القلب:
إن مثل هذا العميل عندما يواجه مشكلات أو صعوبات في حياته الدنيوية ، أو عندما يعانى - دون إدراك كامل - من الآثار المترتبة على عدم التزامه القلبي والسلوكي بما "يعرف" أنه الحق يكون في حالة من القلق والاضطراب والتردد ، فهو قد يتذكر ما يقضى به سلامة اعتقاده فيصبر على مواجهة المواقف الصعبة حينا ، ولكنه يعود للجزع أحيانا كثيرة لأنه يسلِّم نفسه لنفسه أكثر من تسليمها لخالقه ومولاه ، والصعوبة الأولى التي تواجه الأخصائي الاجتماعي المسلم في العمل مع هذا العميل تكمن في مقاومته الشديدة للاعتراف بالتقصير في حق نفسه وفي حق ربه ، أو في الاعتراف بأن الخطة التي اختطها لنفسه في الحياة تبتعد في جوانب جوهرية عما يُلزمه به اعتقاده الصحيح ، وكلما فاتحة الأخصائي في هذا الأمر فإن العميل يسابقه في ترديد " الأقوال " التي تعبر عن عقيدة صحيحة ، مع دفاعات شديدة يحاول أن يمنع بها نفسه أو الأخصائي من النفاذ إلى حقيقة ولائه القلبي غير المستقر .
ويرجع السبب في مثل هذا التشبث الزائد بالاعتمادية على النفس والثقة بها - الذي يحول دون كمال الاستسلام لله عز وجل والاعتماد عليه والانطراح في ساحة رحمته - إلى ما سبق أن عرضناه حول الطبيعة الإنسانية، فلقد ذكرنا فيما سبق أن الإنسان مكون من مادة (بدن) وروح ، وأن المادة تأنس بالإشباع المادي البدني ، وتطمئن بما تجمعه وتكنـزه مما تظنه يضمن لها استمرار بقائها ووجودها ويحول دون فاقتها واحتياجها إلى الناس ،وعلى العكس فإن الروح - من جانب آخر - إنما تأنس "فقط" بالقرب من الله ، وتطمئن بالصلة به سبحانه ، ولكن هذه الصلة بالله - والعبادات والطاعات طريقها - ليست من نفس الطبيعة المادية التي يتشوف لها البدن - والنفس بالتبعية .
والإنسان بحكم قرب الإشباعات الدنيوية من نفسه على هذا الوجه يميل إلى الظن بأن السعادة تتحقق طرديا مع ازدياد إشباع مرغوبات النفس ، بمعنى أنه كلما ازداد إشباع الحاجات البدنية الدنيوية كلما ازدادت السعادة ، ولا يخطر بالبال - إلا بتوجيه وتعليم وخبرة شخصية وتدريب - حقيقةَ أن الإنسان كائن معقد يحوى إلى جانب البدن (الذي يسير وفقا للقاعدة المذكورة) روحا قد تسير في "عكس الاتجاه" بمعنى أنه كلما أغرق الإنسان وتجاوز في إشباع حاجاته الدنيوية كلما قلت سعادته " الكلية " وكلما قل الإشباع ازدادت السعادة الكلية (أي التي تشمله كله ككائن حي مكون من بدن وروح).
وإذن فإن العلاج هنا يتمثل أساسا في معاونة العميل على مقاومة أنس النفس (الجبلي) بالماديات لإفساح المجال أمام أنس الروح بالعبادات والطاعات التي تفتح الطريق أمام حسن الصلة بالله سبحانه وتعالي ، ومن هنا يصبح " التحكم في النفس" والسيطرة عليها لتوجيهها نحو خدمة الإنسان الكلى(بدنا وروحا) بدلا من خدمة حاجات البدن وحدها هو المفتاح لحل الموقف الإشكالي، فبه يتمكن المرء من الإمساك بزمام نفسه وقيادتها في الطريق الذي يحييها ومن ثم يتمكن من الإمساك بزمام حياته كلها ليوجهها بنعمة الله إلى ما يرضى الرب ، ولكن هذا يتطلب عملية إعادة-تعليم ضد التيار كما يقولون ، أي تغيير التوجه البشرى ضد ما تهواه النفس ، أي تحويلها من الاعتماد على المخلوقين (الذات- الآخرين) لجلب ما يظن الإنسان أنه ينفعه (المال- الجاه- الشهوات)، إلى الاعتماد على الله سبحانه وتعالي والاطمئنان إلى أن في ذلك أكبر ضمان لتحقيق كل المرغوبات على الوجه الذي يرضى الرب ويحقق أكبر حاصل ممكن من الخير الكلي في الوقت ذاته.
ويتطلب التعامل مع هذا النوع مع العملاء استخدام استراتيجية متعددة الأوجه ، تستهدف معاونة العميل على إعادة النظر في حياته واستعادة توازنه ، يتولى الأخصائي في إطارها الأخذ بيد العميل خلال كل مرحلة أو وجه من أوجهها على النحو التالي:
1- إنشاء العلاقة المهنية القائمة على الأخوة في الله بين الأخصائي والعميل:
إن "العلاقة المهنية" بتوصيفها التقليدي لا تستوعب ما يتطلبه المنظور الإسلامي للممارسة من اهتمام الأخصائي بالعميل كاهتمام الأخ بأخيه ، الذي يرعى مصلحته ويرقب الله فيه، والحق أن عمق التأثير المرغوب في العملاء لمساعدتهم ليس فقط على مواجهة مشكلاتهم وصعوباتهم الحالـّة بل ومساعدتهم أيضا على إصلاح حياتهم وإقامتها على طريق الله ، يتطلب التركيز منذ البداية على إقامة هذا النوع الخاص من العلاقة المهنية - علاقة في الله ولله وبالله. فالأخصائي يتخذ زمام المبادرة في إنشاء هذه العلاقة منذ المقابلة الأولى مع العميل ، ثم هو يتعهدها ويرعاها طول الوقت ، لأنها هي أساس النجاح في تحقيق الأهداف النبيلة التي يريد الأخصائي تحقيقها ، وذلك للاعتبارات الآتية:
ا- أنها حجر الزاوية في تقبل العميل للأخصائي.
ب- وأنها الأساس في قبول تدخل الأخصائي فيما يعتبر من أخص وأخفي جوانب حياة الإنسان: الجانب الروحي - الاعتقادي.
ج- وهي الأساس في تقبل الخطة العلاجية من جانب العميل.
د- وهي من العوامل المساعدة على التزام العميل بتنفيذ الخطة العلاجية.
ولكن هذا المستوى من " العلاقة المهنية" بهذا المعنى الموسع يثير التساؤل حول نوع توجه المعالج أو المرشد أو الأخصائي الاجتماعي القادر عليه ، ويشير بوضوح إلى أهمية اختيار أولئك المهنيين وإعدادهم الإعداد الكافي ليكونوا هم أنفسهم من أهل السلامة في الاعتقاد، والحياة في القلب ، والاستقامة في السلوك ، وكلما اقترب المهنيون المساعدون من هذا النموذج المثالي كلما ازدادت احتمالات نجاحهم في العمل من منظور إسلامي.
وهناك قضية أخرى تتصل بكيفية تعامل الأخصائي الاجتماعي المسلم مع ما قد يحدث من رفض بعض أنواع العملاء للتعاون مع الأخصائي على هذا المستوى المتعمق الذي يتطلبه العمل من المنظور الإسلامي ، وهنا فإننا نقترح أن يكون لدى الأخصائي الاستعداد دائما للعودة بالتعامل مع العميل- في مثل هذه الحالة - إلى مستوى التعامل الأكثر سطحية والذي ألفناه في الكتابات التقليدية للخدمة الاجتماعية والذي يقتصر على الأمور الدنيوية القريبة ، على أن يتم هذا الانتقال - إذا حدث - بنفس راضية ودون أي غضاضة أو مرارة من جانب الأخصائي ، انطلاقا من الإيمان بأن " الهدى هدى الله" وبأن الله سبحانه وتعالي " يعطى الدنيا من يحب ومن لا يحب ولا يعطى الدين إلا لمن أحب" ، وضمانا لعدم انقطاع العلاقة بين الأخصائي والعميل ، بل إن من الممكن القول أن عملية الرجوع إلى المستوى المألوف من التعامل بنزاهة وتجرد من جانب الأخصائي لا يزيد العميل إلا اطمئنانا إليه ، وقد يكون هذا هو الضمان لعودة العميل لطلب المعونة في الوقت الذي يناسبه ، وبالإيقاع الذي تحتمله حالته.
2- مساعدة العميل على الاعتراف بأنه يواجه مشكلة لا يستطيع حلها وحده ، ومساعدته على الاعتراف بأنه بحاجة للمساعدة ، والاعتراف بأن حل المشكلة يتطلب ما هو أكثر من مجرد الحصول على المساعدة السطحية المألوفة ، فقبول العميل بكل هذه الحقائق شرط لابد منه لتوافر الرغبة والعزم على تحقيق التغييرات الجذرية التي يتطلبها العلاج من المنظور الإسلامي ، ولعل مما يعين الأخصائي في هذه المهمة أن يدرك أن العميل ما دام يواجه في الوقت الحالي صعوبة أو ضائقة أو مشكلة فإنه يكون مهيأ للتخلي عن حال الشعور الزائف بالسيطرة على وجوده (أن رآه استغنى) الذي يرتبط في أحوال السلامة بشيء من الكِـْبر الذي يعوق الاعتراف بالقصور أو التقصير ، ومن هنا فإن الموقف الإشكالي قد يكون من مظاهر رحمة الله به ، إذ أنه يعطيه الفرصة لرؤية الواقع من منظور جديد ، فيقبل المساعدة في توجيه حياته بشكل أكثر عمقا في اتجاهات أكثر صحة وأقرب إلى تحقيق رضاء الله سبحانه وتعالي .
3- البدء في إجراءات تقديم العون والمساعدة لإشباع الحاجات الدنيوية (المادية والنفسية والاجتماعية) التي تتطلبها مواجهة الموقف العاجل الذي يعانى منه العميل على الوجه المعهود في الممارسة المهنية التقليدية، وذلك حتى يطمئن العميل من جهة لرغبة الأخصائي الحقيقية في مد يد العون له ، وحتى لا يتوهم أن العمل من منظور الإسلام يتنكر لإشباع الحاجات الإنسانية الطبيعية أو ينكرها .
4- مساعدة العميل - في الوقت ذاته - على إعادة النظر في الطريقة التي يسوس بها حياته حاليا ، وإدراك العلاقة بين الطريقة التي يحيا بها وبين الوقوع في المشكلات ، ليتبين له أنه يسير في طريق مسدود، طريق الاعتماد على البشر بدلا من الاعتماد على رب البشر ، وليتبين له أنه لا خيار أمامه - إذا لم يحدث التغيير المرغوب - إلا استمرار السير في طريق الشقاء النفسي والمعاناة الروحية ، في مقابل ما يمكن أن يحققه من خير بالتغير والسير في طريق التوكل على الله سبحانه وتعالي والرضا بحكمه - على أساس أنه لا يكون في ملكه إلا ما يريد ، وأنه لا يرضى لعباده إلا الطاعة والامتثال لأمره وإلا خذلهم ووكلهم إلى أنفسهم والي حياة من الضياع والخسران في الدنيا وفي الآخرة...، فإذا أراد الله للعميل التوفيق فأراد معرفة الطريق ، فيتم الانتقال معه إلى الخطوة التالية ، وإن أعرض ونأى بجانبه ولم يُرد إلا الحياة الدنيا ، فإن الأخصائي - بعد أن بذل جهده - لا يكون أمامه إلا التسليم بموجب (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء) (القصص:56) ، ثم تنبيه العميل إلى أنه على استعداد دائما للمساعدة ، والدعاء له بخير ، مع تجنب ما يوحي بالإزراء به أو توجيه اللوم إليه.
5- بدء برنامج "التنمية الروحية" المتدرجة مع العملاء الذين استجابوا لما يحييهم ، والذي يستهدف إزالة الران الذي أحاط بالقلب ، واستعادة صفاء الفطرة ونقائها ، والذي يتم من خلال التدريب على القيام بمقادير محسوبة من كل من العبادات والطاعات ، في إطار مواقف الحياة العادية، ويلاحظ أن نجاح هذا البرنامج في هذه المرحلة مرهون باقتناع العميل بحاجته إلى التغيير ، واقتناعه بحاجته إلى الانتقال من الحياة التي تركز على الحاجات الدنيا وحدها إلى الحياة التي تركز على الحاجات " الكلية " للإنسان - أي إلى إحياء روحه مع عدم التنكر لحاجات بدنه ، وهذا يقتضي مساعدة الأخصائي للعميل على اختيار المستوى الملائم كما ونوعا من بين الوسائل والأدوات الآتية ، والسير به بشكل متدرج في معارجها بحسب وسعه ووفق درجة استعداده - في نفس الوقت الذي يتم فيه التعامل مع الموقف الإشكالي ، ويتم فيه تقديم الخدمات المادية والعينية المناسبة لمن هم في مثل حالته:
أ- العبادات: يلاحظ أن العبادات عموما لا يترتب عليها أي إشباع للحاجات البدنية أو الدنيوية ، وأنها تتضمن على العكس من ذلك توقفا " محسوبا " ومتكررا بصفة منتظمة عن ممارسة الحياة العادية وعن إشباع الحاجات المادية ، وهذا يؤدى بالتدريج إلى إفساح المجال أمام سيادة الروح على متطلبات الوجود الأخرى في تلك الأوقات ، فالإنسان يدخل في العبادة ولنضرب لها مثلا هنا بالصلاة - يدخلها كائنا دنيويا عاديا يسود تيار الشعور عنده الانشغال بمتطلبات البقاء الدنيوية المعهودة ، ولكنه مع الدخول في نية الصلاة ثم البدء في القراءة يبدأ في الالتفات عن هذا النمط الدنيوي المعتاد إلى مناجاة ربه ، مشبعا بذلك لحاجات روحه ، ويتدافع النوعان من الوعي (الانشغال بما هو أرضي دنيوي ، والتطلع إلى ما هو أكثر دواما : الارتباط بالله عز وجل ) وكلما كسب أحدهما أرضا ازدادت قدرته على مدافعة الآخر وهكذا ، فإذا صدق العزم فإن الموقعة تنتهي وقد ازدادت الروح هيمنة على الحياة، وكلما اعتاد الإنسان الاستغراق في العبادة اعتاد سيطرة الروح على متطلبات البدن ، واعتاد تحمل المشاق النفسية والبدنية التي يتطلبها حسن التعامل مع الناس ، وارتفعت عنده عتبة الإحباط النفسي ، فابتعد عن تجاوزات الجبلة الطينية من جزع وهلع وشح وكبر ، فيحسن توافقه مع نفسه ومع الناس نتيجة لارتقائه في مدارج السالكين إلى الله سبحانه وتعالي .
ب- الطاعات: تتفق الطاعات العملية والأعمال الصالحات (مثل صلة الأرحام ، وإكرام الجيران والضيفان ، والسعي في مصالح الضعفاء) مع العبادات في أنهما تتطلبان جهادا للنفس لحملها على إفساح المجال للروح ، والسير في غير طريق الإلف والاعتياد ، وغير طريق الراحة البدنية والدعة ، ولكنهما تختلفان من حيث أن العبادات تَقصد بطريق مباشر إلى إخلاء تيار الشعور من الاهتمامات الدنيا صعودا إلى الاهتمامات الأعلى مع حد أدني من اشتغال البدن ، في حين أن الطاعات والأعمال الصالحات تحتاج لكي تتم اشتغال البدن بكليته مع احتلال الاهتمامات العليا لتيار الشعور ولو بشكل جزئي، لأن الطاعات لا يمكن أن تبدأ أصلا ولا أن تستمر إلا بنية وبدافع من قوة روحية "واعية" مريدة لإتمام أعمال الخير ، وبهذا فإن العبادات والأعمال الصالحات إنما هما طريقان لتحقيق نفس الهدف الواحد ، ألا وهو إحكام هيمنة الروح (الساعية إلى الصلة بخالقها) على الحياة " الكلية" للإنسان ، بحيث تبتعد به عن استمرار ذلك الميل الطبيعي إلى التجاوز الناتج عن الخضوع لمطالب الجسد الدائمة الإلحاح.
ج- الذكر والتلاوة: معلوم أن العقل البشرى لا يكف عن العمل والتفكير ، والعقل مناط الوعي ، وحجم النشاط العقلي الواعي يفيض كثيرا عما يحتاجه التفكير فيما تتحقق به مطالب البقاء الدنيوية ، وفائض النشاط العقلي إما أن ينفق فيما خُلق له من ذكر الله سبحانه وتعالي وتسبيحه وتمجيده ، أو أن يهدر في التفكير فيما هو أدنى من ذلك كثيرا ، ولذلك فقد نهي القرآن الكريم عن الغفلة وتوعد الغافلين بأشد العقوبات ، لأن الغفلة قمة النكول عن القيام بحقوق الخالق الذي خلق العباد لطاعته وذكره وتسبيحه ، دون أن يحرمهم في الوقت ذاته من التفكير وإعمال النظر فيما يصلح به أمرهم من شئون الدنيا ، ومن هنا فإن معاونة الأخصائي للعميل على مداومة الذكر وتعهد القرآن الكريم بالتلاوة والتدبر تعنى مساعدته على الارتباط المتواصل بخالقه من الناحية العقلية - ومن جهة الوعي - مما يدعم تأثير العبادات الطاعات ، ومما يؤثر في القلب فيلزمه الاطمئنان والاستقرار بدلا من التشتت والاضطراب (وننـزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين) (الإسراء: 82).
6- إعادة النظر في المشكلة الأصلية وفي طرق الاستجابة لمواقف الحياة في ضوء جديد : إذا نجحت جهود الأخصائي والعميل في تحقيق مستوى أرقى من النمو الروحي عند العميل فإنه يكون الآن مستعدا لما يلي:
أ- مراجعة المشكلة أو الموقف الذي احتاج بسببه إلى المساعدة ، والتعرف على الأسباب الحقيقية لمشكلاته الآن وقد تخلص بفضل الله من الانفعالات التي تكبل العقل أو تشوش عليه، ثم اتخاذ الإجراءات الواقعية لمواجهة المشكلة أو الموقف وفقا للخطة العلاجية التي يتفق عليها مع الأخصائي.
ب- مراجعة توجهاته في الحياة بطريقة جذرية ، واستعادة توازنه فيها ، بما يكفل له بإذن الله سيطرة على نفسه ليسير في طريق الله ضمن وفد عباده الصالحين .
7- التدعيم والتثبيت: إن تحقيق أي مرتبة أرقى من مراتب الحياة الروحية لا يعني الثبات عليها ، فالقوى المؤثرة إيجابا وسلبا في التكوين الإنساني فعالة متحركة على الدوام ،ومن هنا فإن من الضروري معاونة العميل على حماية مواقعه وتثبيت دعائمها، بل والعمل الدائب نحو كسب مواقع جديدة وذلك من خلال :
أ- التأكيد على الثقة في الله جل وعلا ، وتوقع التوفيق منه سبحانه وتعالي لمن أقبل على سلوك طريقه ، والاطمئنان إلى معونته ونصره لمن أطاعه واتقاه ، مما يؤدى إلى تثبيت قلب العميل ، ومعاونته على الاستمرار على النهج حتى يلقى ربه غير مبدل.
ب- توقع الدعم من ملائكة الرحمن لأولئك الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا ، بما يزيد الثقة في سلوك الطريق إلى الله سبحانه وتعالي ، مع الِبشْر أو التفاؤل الذي يرفع الروح المعنوية ، ويقوى المناعة الداخلية ، ويساعد على بلوغ الغاية.
ج- التحذير من نزغات الشياطين ، والتعرف على الطرق التي يتخذها الشيطان وقبيله لإضلال البشر ، وبيان الطرق التي يتم التحصن بها من تأثيره، وذلك لمساعدة العميل على إغلاق أبواب النكوص والتراجع ، ثم مساعدته على الثبات أو المضي قدما بإذن الله.
النوع الثالث: حالة فساد الاعتقاد وسقم القلوب:
يتمثل العلاج في هذه الحالة أساسا في العمل على تصحيح العقيدة أولا حتى ينفتح الباب أمام إمكانية إصلاح القلب ، ويتضمن ذلك تحديد مناطق الاختلال في الاعتقاد ، التي ترتب عليها متابعة الأهواء والشهوات ، التي تسببت بدورها في حدوث المشكلات السلوكية التي يواجهها العميل ، ثم العمل على إزالة تلك الاختلالات ، وإعادة-تعليم العميل ما ينبغي أن يحل محلها من سليم الاعتقاد سواء قام الأخصائي بذلك بنفسه أو بالتعاون مع أهل العلم ممن هم أقدر منه على ذلك الأمر. وعلى كل حال فإن العمل مع هذا النوع من العملاء يتطلب إلماما كافيا من جانب الأخصائي بأشكال الانحرافات العقدية الهامة الشائعة في منطقة عمله ، كما يتطلب تمرسا في فهم الجوانب المتصلة بها وبالرد عليها في نطاق علوم أصول الدين. ويلاحظ أنه بعد إتمام مرحلة تصحيح العقيدة من الشركيات والبدع والخرافات ، فإن على الأخصائي الاجتماعي المسلم أن يسير في تدخله المهني وفقا للاستراتيجيات التي سبق وصفها بالنسبة للعملاء من النوع الثاني ، والتي لا نحتاج إلى تكرارها هنا مرة أخرى.
خاتمــة
لقد حاولنا في هذه الورقة تقديم مثال عملي لتطبيق "المرحلة الأولى" من مراحل منهجية إسلامية المعرفة على أحد الموضوعات المهنية المتخصصة في محيط الخدمة الاجتماعية وغيرها من مهن المساعدة الإنسانية ، وبالتالي فإنه سيكون من الميسور على القارئ المتخصص متابعة الموضوع سواء من جهة "المحتوى" أو من جهة "إجراءات التطبيق" للمنهجية، أما القارئ غير المتخصص فقد لا تعنيه بعض تفصيلات المحتوى ، والطبيعي أن ينصرف الاهتمام في هذه الحالة إلى عملية التطبيق وإجراءاتها، ولهذا فإننا قد اختططنا طريقا وسطا في العرض رجونا أن يحقق هدفنا المحدود، فلم نقصد استيفاء الموضوع عرضا كما ينبغي لحاجة القارئ المتخصص ، ولم نهتم كثيرا بالتوثيق التفصيلي للمادة المعروضة حتى لانقطع السياق أمام القارئ غير المتخصص ، وذلك اعتمادا على أن من شاء الرجوع إلى المادة العلمية التفصيلية من المتخصصين فيمكنه الرجوع إلى بحث طويل بعنوان "التوجيه الإسلامي للخدمة الاجتماعية" أرجو أن يلقى طريقه إلى النشر قريبا بإذن الله.
ولكن من الضروري أن نؤكد الآن مرة أخرى على ما سبق أن ذكرناه من قبل من أن هذه المحاولة "جزئية" بمعنى أنها تقتصر على المرحلة الأولى من المراحل المنهجية لعملية إسـلامية المعـرفة ألا وهي مرحلة "التنظير" كما قدمنا ، والتي نحاول فيها إيجاد نوع من التكامل بين معطيات الوحي ومنجزات الخبرة الإنسانية بالنسبة لهذا الموضوع ، وأن نؤكد أن مثل هذه المحاولة إنما تمهد السبيل أمام المرحلة الثانية ألا وهي مرحلة "البحوث والممارسة" للتثبت من القيمة العلمية والعملية لهذا الاجتهاد البشري من جهة ثم لتطويره و تفصيل محتواه وزيادة تمايزه من جهة أخرى ، وذلك على الصورة المتعارف عليها في حركة العلم وتقدمه الدائب.
ولقد يكون من المفيد أن نعطي هنا بعض الأمثلة لبعض التساؤلات والقضايا المستمدة من هذا الإطار التصوري المتكامل الذي عرضنا بعض عناصره في الصفحات السابقة والتي يمكن استنباط فروض منها يتم اختبارها في "مشروعات بحثية" ، وكذلك بعض الأمثلة للقضايا التي يمكن اختبارها من خلال "الممارسة المهنية" في العمل المباشر مع العملاء الذين يواجهون هذا النوع من المشكلات. فأما بالنسبة للتساؤلات والقضايا القابلة للاختبار فمن أمثلتها مايلي :
1- هل توجد علاقة بين درجة الارتقاء الروحي (أو درجة التدين) عند الفرد وبين احتمال (عدم) الوقوع في المشكلات الشخصية أو النفسية/الاجتماعية ؟
2- وإذا ثبت وجود هذه العلاقة فأي مكونات هذا المفهوم أكثر ارتباطا (قدرة على التنبؤ) بالوقاية من المشكلات الشخصية أو النفسية/الاجتماعية ( أداء العبادات ، أنواع الطاعات الملموسة ، الاتجاهات النفسية المميزة للارتقاء الروحي …) ؟
3- ماهي العوامل التي تفسر "تكرار" وقوع الأفراد في المشكلات الشخصية أو النفسية /الاجتماعية ، وما هو موقع العوامل الروحية بين هذه العوامل ؟
4- كيف تتفاعل العوامل الروحية مع بقية المتغيرات السوسيولوجية الأخرى لإحداث أعراض المشكلات الشخصية النفسية/الاجتماعية ؟
5- مع ثبات درجة الارتقاء الروحي : هل يتناسب احتمال الوقوع في المشكلات الشخصية أو النفسية/الاجتماعية طرديا مع نقص إشباع الحاجات الدنيوية التي يعتبرها الفرد أساسية.
6- دراسات تقويمية لتقدير مدى فاعلية العلاج من المنظور الإسلامي في مواجهة أنواع محددة من المشكلات : السلوك العدواني ، المشكلات الدراسية ، الجريمة ، إدمان المخدرات … الخ ؟
7-دراسات تقويمية لتقدير مدى فاعلية العلاج من المنظور الإسلامي مع أنواع العملاء : بحسب السن (الأحداث ، المراهقون ، البالغون) ، نمط المعيشة (الريف ، الحضر) ، التعليم (المتعلمون ، غير المتعلمين).
8-دراسات تقويمية لتقدير مدى فاعلية العلاج من المنظور الإسلامي بحسب درجة حدة المشكلة التي تم تحويل العميل بسببها.
وأما بالنسبة للقضايا التي يمكن اختبارها والممارسات التي يمكن بلورتها تطويرا للنموذج الإسلامي في التدخل المهني من خلال "الممارسة المهنية" في العمل المباشر مع العملاء الذين يواجهون هذا النوع من المشكلات فمن أمثلتها :
1- إلى أي مدى يستجيب العملاء لمحاولة الأخصائي التعمق لتقدير الموقف فيما يتصل بنوعية حياتهم الروحية.
2- ماهي تحديدًا أشكال وصور المقاومة التي يبديها العملاء من النوع الثاني لجهود الأخصائي عند محاولة مساعدتهم على إدراك وجه الارتباط بين مشكلاتهم وبين نوعية حياتهم الروحية.
3- ماهي الأساليب الفنية التي يمكن أن يتبعها الأخصائي عند ظهور كل صورة من صور المقاومة .
4- حصر ألوان الاحتياج والقصور المحددة التي عادة ما تواجه العملاء من النوع الأول ، وتحديد أنسب الأساليب التي تستخدم في معاونتهم.
5- تصنيف العملاء من النوع الثاني إلى فئات أكثر تفصيلا بحسب درجة النقص في هيمنة الاعتقاد على الوجدان والسلوك ، ودراسة أنسب الأساليب للتعامل مع كل صنف.
هذه فقط بعض الأمثلة التي ذكرت بغرض الدلالة على الاتجاه الذي يمكن للبحوث والممارسة أن تسير فيه ، وكما ذكرنا فإن نتائج هذه البحوث والممارسات إذ يتم نشرها في الدوريات العلمية المتخصصة ، وإذ يتم مراجعتها ونقدها والحوار حولها بين المتخصصين ، ستمثل البدايات الحقيقية الأولى للمادة العلمية المؤصلة إسلاميا على وجه الحقيقة ، لأنها تكون - عندئذ - قد خضعت للتمحيص ، وتم التأكد من مطابقتها للشواهد والسنن الإلهية في الأنفس والمجتمعات.
والله الموفق والمستعان ، وهو نعم المولى ونعم النصير.
قائمة جزئية بالمراجع
- إبراهيم عبد الرحمن رجب : "التوجيه الإسلامي للخدمة الاجتماعية" بحث قدم في مؤتمر التوجيه الإسلامي
للعلوم ، الذي نظمته رابطة الجامعات الإسلامية وجامعة الأزهر، القاهرة ، إبريل 1992 .
- إبراهيم عبد الرحمن رجب : "منهج التوجيه الإسلامي للعلوم الاجتماعية" المسلم المعاصر، السنة 20،
العدد 80 ، مايو/يوليو 1996.
- أجروس وستانسيو : العلم في منظوره الجديد [1984] ترجمة كمال خلايلي (الكويت : المجلس الوطني
للثقافة والفنون والآداب، 1989).
- إسماعيل الفار وقى: " أسلمة المعرفة " ، المسلم المعاصر، العدد 32 ،1982م - 1402هـ.
- الطاهر بن عاشور: تفسير التحرير والتنوير (تونس : الدار التونسية للنشر، 1984).
- عفاف إبراهيم الدباغ : المنظور الإسلامي لممارسة الخدمة الاجتماعية ، رسالة دكتوراه منشورة، كلية
الخدمة الاجتماعية للبنات بالرياض ، المعهد العالمي للفكر الإسلامي ومكتبة المؤيد بالرياض ،1994.
- محمد محروس الشناوي " الأهداف العامة لمساعدة الأفراد على مواجهة مشكلاتهم النفسية كما تعرضها
نظريات الإرشاد والعلاج النفسي الغربية " ، بحث قدم للندوة الأولى للتأصيل الإسلامي للخدمة الاجتماعية
، المعهد العالمي للفكر الإسلامي ، القاهرة ، 1991.
الخميس مايو 09, 2013 10:32 pm من طرف قداري محمد
» استخدام طريقة العروض العملية في تدريس العلوم
الخميس أبريل 18, 2013 10:26 am من طرف قداري محمد
» Ten ways to improve Education
الخميس فبراير 21, 2013 8:44 am من طرف بشير.الحكيمي
» مقتطفات من تصميم وحدة الإحصاء في الرياضيات
الثلاثاء يناير 29, 2013 8:30 am من طرف بشير.الحكيمي
» تدريس مقرر تقنية المعلومات والاتصالات
الأربعاء يناير 02, 2013 7:49 am من طرف انور..الوحش
» تدريس مقرر تقنية المعلومات والاتصالات
الأربعاء ديسمبر 19, 2012 10:00 am من طرف محمدعبده العواضي
» الواجبات خلال الترم 5
السبت أكتوبر 06, 2012 11:12 pm من طرف بشرى الأغبري
» الواجبات خلال الترم4
السبت أكتوبر 06, 2012 11:11 pm من طرف بشرى الأغبري
» الواجبات خلال الترم3
السبت أكتوبر 06, 2012 11:10 pm من طرف بشرى الأغبري