الدوافع والحاجات الإنسانية:
رأينا فيما سبق أن تفسير المشكلات النفسية/الاجتماعية يدور أساسا حول فكرة إشباع "الحاجات الإنسانية" - أو بالأحرى الحرمان من إشباعها - وما يترتب على ذلك من إحباط وعدوان ، يتفاقم تحت تأثير الانقطاع في عملية التنشئة الاجتماعية أو اضطراب المعايير الاجتماعية ، مما يؤدي إلى المشكلات في العلاقات الاجتماعية ، وفي أداء الوظائف الاجتماعية ، فإذا تأملنا توصيف تلك الحاجات الإنسانية في الكتابات المعاصرة فإننا نجدها تنحو منحى ماديا متطرفا قاصرا على هذه الحياة الدنيا ينسجم مع النظرة للطبيعة الإنسانية على الوجه الذي ألمحنا إليه ، ويحتل ابراهام ماسلو مكانا خاصا جدا فيما يتعلق بنظرية الدوافع الإنسانية A Theory of Human Motivation التي قدمها عام 1943 ولا زالت توجه فكر المشتغلين بالعلوم الاجتماعية ومهن المساعدة الإنسانية إلى اليوم ، حيث رأى أن الدافعية تحركها "الحاجات الإنسانية الأساسية" The Basic Needs التي رتبها في شكل هرم متدرج Hierarchies of Prepotency قاعدته الحاجات الفزيولوجية Physiological Needs (كالحاجة إلى الطعام والشراب والجنس) يليها حاجات الأمن أو السلامة Safety Needs (من المرض أو ما يهدد الحياة) يليها الحاجة إلى الحب والتعاطف والانتماء Love Needs ثم الحاجة إلى التقدير واحترام الذات والشعور بالاحترام والتقدير من جانب الآخرين Esteem Needs ، وأخيرا الحاجة إلى تحقيق الذات Need for Self-Actualization أي تحويل إمكانات الفرد واستعداداته إلى واقع متحقق بالفعل. وبالرغم من أن ماسلو في أخريات حياته قد عدل نظريته في بحث مهم نشره عام 1967 بعنوان "نظرية في الدوافع الأرقى" A Theory of Metamotivation حيث ذكر أنه قد تبين له أنه حتى بعد أن يحقق الإنسان ذاته فإنه يظل مدفوعا بحاجات "روحية" تدفع الناس لتكريس حياتهم لرسالة نبيلة أو واجب أو مهمة "خارج أنفسهم" يضحون بكل شئ من أجلها ، إلا أنه لنزعته التطورية لم يسلِّم أبدا بأي وجود متمايز للروح واعتبر أن الأمر لا يخرج عن كونه نوعا من الحيوانية الأرقى ! وحتى مع هذا فإن نظريته الأخيرة هذه لم تلق من الذيوع معشار ما لقيته نظريته القديمة.
وفي ضوء هذا العرض يتبين لنا بوضوح أن العلوم الاجتماعية الحديثة تبدو وكأنها قد عقدت العزم وجمعت الهمة على أن لاترى في الإنسان إلا كيانه المادي في نطاق هذه الحياة الدنيا كما رأينا ، وأن تعتبر أن الإنسان لا يمثل إلا امتدادا تطوريا لعالم الحيوان [ لاحظ أن بحوث ماسلو وتجاربه في مقتبل عمره منذ 1932 قد اقتصرت تماما على دراسة سلوك القردة العليا وغيرها من أنواع الحيوان] ، أما النظرة الإسلامية للحاجات فإنها تقوم بدلا من ذلك - على ما فصلناه عند الحديث عن الطبيعة الإنسانية _ على أساس أن هناك حاجة أولية مهيمنة على جميع الحاجات - لأنها ضامنة لإشباعها جميعا - أولا وهي الافتقار إلى الله عز وجل والمتضمنة في قوله تعالي " يأيها الناس أنتم الفقراء إلى الله ، والله هو الغنى الحميد " (فاطر : 15) حيث يفسر ابن كثير "أنتم الفقراء” بقوله " أي أنتم محتاجون إليه في جميع الحركات والسكنات ، كما فسر الفخر الرازي "إلى الله" بأن في هذا إعلاما من الله بأنه لا افتقار إلا إليه ، وأن هذا يوجب عبادته لكونه مفتقرا إليه سبحانه ، وعدم عبادة غيره لعدم الافتقار إلى غيره ، فالإنسان في حاجة إلى الله لأنه سبحانه وتعالي هو الذي خلقه وسخر ما في السماوات وما في الأرض لإشباع حاجاته الدنيوية ، وكل إنسان كائنا من كان في حاجة إلى شكر الله - بعبادته - حتى تقضى احتياجاته في الدنيا وفي الآخرة أيضا .
وإذن فالإسلام ينظر للحاجات المادية وغير المادية على أن لكل منها مشروعيته ، ولكنه ينظر لإشباع كل الحاجات جميعها من منظور لا يتوقف فقط عند حدود هذه الحياة الدنيا ، بل يربط دوما بين كل ما في الدنيا وبين الآخرة التي هي دار القرار، فيجعل إشباع الحاجات الدنيوية "وسيلة" طيبة للقيام بمهام العبودية لله ولا يجعل ذلك الإشباع غاية في ذاته . وإذن فإنه على عكس ما يظن المتخصصون في العلوم الاجتماعية المعاصرة (إضافة إلى ما في أقوالهم من حق) فإن من الممكن القول أن حاجات الإنسان في المنظور الإسلامي تقع في فئتين رئيسيتين على الترتيب الآتي:
1- الافتقار إلى الله عز وجل، والحاجة إلى الارتباط به والاستمساك بحبله المتين ، باعتبار أن هذا الارتباط بالله فيه الضمان لإشباع كل حاجة أخرى في هذه الحياة الزائلة المتحولة ، بل وفيما وراءها مما يعتبر الحياة الحقيقية الدائمة.
2- الحاجات المادية والنفسية والاجتماعية " الدنيوية " ، التي أفاض في وصفها وتحليل أبعادها أولئك المتخصصون في العلوم الاجتماعية ، والتي تتصل بإشباع الحاجات الفزيولوجية والحاجة إلى الأمن والحب والتقدير والمكانة وصولا إلى تحقيق الذات .. الخ .
والمنظور الإسلامي يقوم على الارتباط الوثيق بين هذين النوعين من الحاجات ، بشكل يتوازى مع الارتباط الوثيق بين الروح والبدن ، اللذين منهما يتكون الإنسان ولكن مع أولوية وهيمنة النوع الأول من الحاجات على الوجود الإنساني ككل .
وفي ضوء ذلك الفهم فإن بإمكاننا القول - بصورة مبدئية - بأن التصور الإسلامي لتفسير المشكلات الفردية أو المشكلات الشخصية النفسية/الاجتماعية يقوم على مبدأين أساسيين يمكن صياغتهما في شكل قضايا يمكن استنباط فروض قابلة للاختبار منها فيما يلي:
المبدأ الأول : إن انقطاع أو ضعف صلة الإنسان بالله عز وجل يعتبر في ذاته سببا " ضروريا وكافيا وحده" لوقوع الفرد في المشكلات الشخصية والمشكلات المتصلة بالعلاقات الاجتماعية في هذه الحياة الدنيا ، كما يكون فوق ذلك سببا للهلاك في الآخرة ، ويصدق ذلك عند كل مستويات إشباع الفرد للحاجات الدنيوية المذكورة.
وتفسير ذلك : أن انقطاع الصلة بالله أو ضعفها يؤدى إلى افتقاد إشباع النوع الأول من الحاجات ، ألا وهو افتقار الروح إلى الارتباط بخالقها وبارئها الذي ليس لها من دونه من ملجأ أو ملاذ ، هذا من جهة ، كما أن انقطاع الصلة بالله أمر يجلب سخط الله وغضبه وخذلانه للعبد من جهة أخرى ، فالإنسان إذا افتقد اليقين بالله سبحانه وتعالي ، وإذا ضل عن طريق الله الذي اشترعه لعباده ، فإنه يتخبط في إشباع حاجاته الدنيوية (المادية والنفسية والاجتماعية ) على غير هدى من الله ، فيبالغ مبالغة شديدة في الجزع من أي نقص في إشباع تلك الحاجات التي هي عنده غاية الغايات ، وفوتها لا يعوض لا في عاجل ولا في آجل ( في الدنيا والآخرة ) ، فتتأثر بذلك حالته الانفعالية ، وقد يمتد التأثير إلى إحداث أعراض بدنية/نفسية Psychosomatic ، وعلى الجانب الآخر... فإن من توفرت له الموارد الوافرة لإشباع حاجاته المادية يميل إلى الطغيان والتجاوز ، فيكون بذلك سببا في المشكلات لنفسه ولغيره ، ومن ذلك نستنتج أن نقص المعرفة واليقين بالله تعالي يؤدى إلى وقوع المشكلات سواء أشبعت الحاجات المادية على أرقى مستوى أو كان الحرمان والافتقار إلى الموارد . والأدلة الشرعية على صحة هذا المبدأ لا حصر لها ولكننا نكتفي هنا بهذه الآيات الكريمة من سورة طه "قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ، ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى ، قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا ، قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى ، وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد وأبقى (123-127).
المبدأ الثاني : إن القصور في إشباع الحاجات الدنيوية (المادية والنفسية والاجتماعية ) سبب ضروري - ولكنه ليس كافيا وحده - لوقوع الفرد في المشكلات الشخصية والمشكلات المتصلة بالعلاقات الاجتماعية ، وذلك على أساس أنه حتى في حالة وجود مثل ذلك القصور في الموارد المادية مع حسن الصلة بالله سبحانه وتعالي فإن المشكلات التي يواجهها الفرد تكون أقل حدة بكثير - ويتوقف الأمر على درجة ونوع تلك الصلة بالله جل وعلا.
وتفسير ذلك: أن المنظور الإسلامي يقوم على أن للإنسان ولا شك حاجاته الدنيوية التي بها قيام حياته واستمرارها ، ولكن هذه الحاجات تتسم أيضا بأنها شديدة النسبية نتيجة لما يتميز به الإنسان من مرونة مدهشة في هذا الصدد ، فإذا نظرنا إلى الحاجة إلى الطعام كمثال لوجدنا أن الإنسان في الأساس تكفيه " لقيمات يقمن صلبه" ولكنه مع ذلك قد يتجاوز في طلبه إشباع تلك الحاجة تجاوزا كبيرا بحيث تتطلب الكثير والكثير لإشباعها . ومن هنا فإن الناس عندما يواجهون بظروف يفتقدون فيها من الموارد ما يشبع حاجاتهم الدنيوية فإنهم قد يتعرضون للمشكلات ، ولكن درجة الشعور بالإحباط وحجم العدوان المصاحب لهذا الشعور يتوقف على عوامل متعددة.
ويبدو لنا أن التصور الإسلامي يقوم على أن أهم هذه العوامل - مرة أخرى - هو نوع صلة الإنسان بربه ، فالإنسان الذي يوقن بأن له ربا يملك خزائن كل خير في الأرض أو في السماء ، وأنه الكريم المرتجى عفوه والمأمول عطاؤه ، ولكنه أيضا يؤمن بأن الله يعطى ويمنع بقدَر وفقا لحكمته وعلمه بما يصلح خلقه ، فإنه لابد أن يوقن إما بقرب الفرج في العاجل وبضمان التعويض عما فاته في الدنيا ، وإما بالأجر العظيم الذي وُعده الصابرون في الآخرة ، بما يؤدى إلى الاطمئنان النفسي الذي يقلل معدلات التوتر والإحباط والعدوان - التي تصاحب بشكل طبيعي نقص إشباع الحاجات - بل وقد تؤدى إلى استبعاد مثل هذه المشاعر والاتجاهات كلية في بعض الحالات وعند بعض الأشخاص .
ونود أن نذكِّر هنا بأن غرضنا الأساسي في هذا البحث ليس هو حصر أو استنفاد العوامل المؤثرة في إحداث المشكلات النفسية/الاجتماعية بقدر لفت الأنظار إلى العوامل الفريدة التي يتميز بها التصور الإسلامي عن التصورات الوضعية الشائعة بيننا اليوم ، بما يؤدى - إن شاء الله تعالي - إلى مناقشة تلك الصياغات وإجراء الحوار حولها ، بما يمهد الطريق أمام إجراء الدراسات والبحوث التي تختبر تلك الأطر النظرية .
رأينا فيما سبق أن تفسير المشكلات النفسية/الاجتماعية يدور أساسا حول فكرة إشباع "الحاجات الإنسانية" - أو بالأحرى الحرمان من إشباعها - وما يترتب على ذلك من إحباط وعدوان ، يتفاقم تحت تأثير الانقطاع في عملية التنشئة الاجتماعية أو اضطراب المعايير الاجتماعية ، مما يؤدي إلى المشكلات في العلاقات الاجتماعية ، وفي أداء الوظائف الاجتماعية ، فإذا تأملنا توصيف تلك الحاجات الإنسانية في الكتابات المعاصرة فإننا نجدها تنحو منحى ماديا متطرفا قاصرا على هذه الحياة الدنيا ينسجم مع النظرة للطبيعة الإنسانية على الوجه الذي ألمحنا إليه ، ويحتل ابراهام ماسلو مكانا خاصا جدا فيما يتعلق بنظرية الدوافع الإنسانية A Theory of Human Motivation التي قدمها عام 1943 ولا زالت توجه فكر المشتغلين بالعلوم الاجتماعية ومهن المساعدة الإنسانية إلى اليوم ، حيث رأى أن الدافعية تحركها "الحاجات الإنسانية الأساسية" The Basic Needs التي رتبها في شكل هرم متدرج Hierarchies of Prepotency قاعدته الحاجات الفزيولوجية Physiological Needs (كالحاجة إلى الطعام والشراب والجنس) يليها حاجات الأمن أو السلامة Safety Needs (من المرض أو ما يهدد الحياة) يليها الحاجة إلى الحب والتعاطف والانتماء Love Needs ثم الحاجة إلى التقدير واحترام الذات والشعور بالاحترام والتقدير من جانب الآخرين Esteem Needs ، وأخيرا الحاجة إلى تحقيق الذات Need for Self-Actualization أي تحويل إمكانات الفرد واستعداداته إلى واقع متحقق بالفعل. وبالرغم من أن ماسلو في أخريات حياته قد عدل نظريته في بحث مهم نشره عام 1967 بعنوان "نظرية في الدوافع الأرقى" A Theory of Metamotivation حيث ذكر أنه قد تبين له أنه حتى بعد أن يحقق الإنسان ذاته فإنه يظل مدفوعا بحاجات "روحية" تدفع الناس لتكريس حياتهم لرسالة نبيلة أو واجب أو مهمة "خارج أنفسهم" يضحون بكل شئ من أجلها ، إلا أنه لنزعته التطورية لم يسلِّم أبدا بأي وجود متمايز للروح واعتبر أن الأمر لا يخرج عن كونه نوعا من الحيوانية الأرقى ! وحتى مع هذا فإن نظريته الأخيرة هذه لم تلق من الذيوع معشار ما لقيته نظريته القديمة.
وفي ضوء هذا العرض يتبين لنا بوضوح أن العلوم الاجتماعية الحديثة تبدو وكأنها قد عقدت العزم وجمعت الهمة على أن لاترى في الإنسان إلا كيانه المادي في نطاق هذه الحياة الدنيا كما رأينا ، وأن تعتبر أن الإنسان لا يمثل إلا امتدادا تطوريا لعالم الحيوان [ لاحظ أن بحوث ماسلو وتجاربه في مقتبل عمره منذ 1932 قد اقتصرت تماما على دراسة سلوك القردة العليا وغيرها من أنواع الحيوان] ، أما النظرة الإسلامية للحاجات فإنها تقوم بدلا من ذلك - على ما فصلناه عند الحديث عن الطبيعة الإنسانية _ على أساس أن هناك حاجة أولية مهيمنة على جميع الحاجات - لأنها ضامنة لإشباعها جميعا - أولا وهي الافتقار إلى الله عز وجل والمتضمنة في قوله تعالي " يأيها الناس أنتم الفقراء إلى الله ، والله هو الغنى الحميد " (فاطر : 15) حيث يفسر ابن كثير "أنتم الفقراء” بقوله " أي أنتم محتاجون إليه في جميع الحركات والسكنات ، كما فسر الفخر الرازي "إلى الله" بأن في هذا إعلاما من الله بأنه لا افتقار إلا إليه ، وأن هذا يوجب عبادته لكونه مفتقرا إليه سبحانه ، وعدم عبادة غيره لعدم الافتقار إلى غيره ، فالإنسان في حاجة إلى الله لأنه سبحانه وتعالي هو الذي خلقه وسخر ما في السماوات وما في الأرض لإشباع حاجاته الدنيوية ، وكل إنسان كائنا من كان في حاجة إلى شكر الله - بعبادته - حتى تقضى احتياجاته في الدنيا وفي الآخرة أيضا .
وإذن فالإسلام ينظر للحاجات المادية وغير المادية على أن لكل منها مشروعيته ، ولكنه ينظر لإشباع كل الحاجات جميعها من منظور لا يتوقف فقط عند حدود هذه الحياة الدنيا ، بل يربط دوما بين كل ما في الدنيا وبين الآخرة التي هي دار القرار، فيجعل إشباع الحاجات الدنيوية "وسيلة" طيبة للقيام بمهام العبودية لله ولا يجعل ذلك الإشباع غاية في ذاته . وإذن فإنه على عكس ما يظن المتخصصون في العلوم الاجتماعية المعاصرة (إضافة إلى ما في أقوالهم من حق) فإن من الممكن القول أن حاجات الإنسان في المنظور الإسلامي تقع في فئتين رئيسيتين على الترتيب الآتي:
1- الافتقار إلى الله عز وجل، والحاجة إلى الارتباط به والاستمساك بحبله المتين ، باعتبار أن هذا الارتباط بالله فيه الضمان لإشباع كل حاجة أخرى في هذه الحياة الزائلة المتحولة ، بل وفيما وراءها مما يعتبر الحياة الحقيقية الدائمة.
2- الحاجات المادية والنفسية والاجتماعية " الدنيوية " ، التي أفاض في وصفها وتحليل أبعادها أولئك المتخصصون في العلوم الاجتماعية ، والتي تتصل بإشباع الحاجات الفزيولوجية والحاجة إلى الأمن والحب والتقدير والمكانة وصولا إلى تحقيق الذات .. الخ .
والمنظور الإسلامي يقوم على الارتباط الوثيق بين هذين النوعين من الحاجات ، بشكل يتوازى مع الارتباط الوثيق بين الروح والبدن ، اللذين منهما يتكون الإنسان ولكن مع أولوية وهيمنة النوع الأول من الحاجات على الوجود الإنساني ككل .
وفي ضوء ذلك الفهم فإن بإمكاننا القول - بصورة مبدئية - بأن التصور الإسلامي لتفسير المشكلات الفردية أو المشكلات الشخصية النفسية/الاجتماعية يقوم على مبدأين أساسيين يمكن صياغتهما في شكل قضايا يمكن استنباط فروض قابلة للاختبار منها فيما يلي:
المبدأ الأول : إن انقطاع أو ضعف صلة الإنسان بالله عز وجل يعتبر في ذاته سببا " ضروريا وكافيا وحده" لوقوع الفرد في المشكلات الشخصية والمشكلات المتصلة بالعلاقات الاجتماعية في هذه الحياة الدنيا ، كما يكون فوق ذلك سببا للهلاك في الآخرة ، ويصدق ذلك عند كل مستويات إشباع الفرد للحاجات الدنيوية المذكورة.
وتفسير ذلك : أن انقطاع الصلة بالله أو ضعفها يؤدى إلى افتقاد إشباع النوع الأول من الحاجات ، ألا وهو افتقار الروح إلى الارتباط بخالقها وبارئها الذي ليس لها من دونه من ملجأ أو ملاذ ، هذا من جهة ، كما أن انقطاع الصلة بالله أمر يجلب سخط الله وغضبه وخذلانه للعبد من جهة أخرى ، فالإنسان إذا افتقد اليقين بالله سبحانه وتعالي ، وإذا ضل عن طريق الله الذي اشترعه لعباده ، فإنه يتخبط في إشباع حاجاته الدنيوية (المادية والنفسية والاجتماعية ) على غير هدى من الله ، فيبالغ مبالغة شديدة في الجزع من أي نقص في إشباع تلك الحاجات التي هي عنده غاية الغايات ، وفوتها لا يعوض لا في عاجل ولا في آجل ( في الدنيا والآخرة ) ، فتتأثر بذلك حالته الانفعالية ، وقد يمتد التأثير إلى إحداث أعراض بدنية/نفسية Psychosomatic ، وعلى الجانب الآخر... فإن من توفرت له الموارد الوافرة لإشباع حاجاته المادية يميل إلى الطغيان والتجاوز ، فيكون بذلك سببا في المشكلات لنفسه ولغيره ، ومن ذلك نستنتج أن نقص المعرفة واليقين بالله تعالي يؤدى إلى وقوع المشكلات سواء أشبعت الحاجات المادية على أرقى مستوى أو كان الحرمان والافتقار إلى الموارد . والأدلة الشرعية على صحة هذا المبدأ لا حصر لها ولكننا نكتفي هنا بهذه الآيات الكريمة من سورة طه "قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ، ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى ، قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا ، قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى ، وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد وأبقى (123-127).
المبدأ الثاني : إن القصور في إشباع الحاجات الدنيوية (المادية والنفسية والاجتماعية ) سبب ضروري - ولكنه ليس كافيا وحده - لوقوع الفرد في المشكلات الشخصية والمشكلات المتصلة بالعلاقات الاجتماعية ، وذلك على أساس أنه حتى في حالة وجود مثل ذلك القصور في الموارد المادية مع حسن الصلة بالله سبحانه وتعالي فإن المشكلات التي يواجهها الفرد تكون أقل حدة بكثير - ويتوقف الأمر على درجة ونوع تلك الصلة بالله جل وعلا.
وتفسير ذلك: أن المنظور الإسلامي يقوم على أن للإنسان ولا شك حاجاته الدنيوية التي بها قيام حياته واستمرارها ، ولكن هذه الحاجات تتسم أيضا بأنها شديدة النسبية نتيجة لما يتميز به الإنسان من مرونة مدهشة في هذا الصدد ، فإذا نظرنا إلى الحاجة إلى الطعام كمثال لوجدنا أن الإنسان في الأساس تكفيه " لقيمات يقمن صلبه" ولكنه مع ذلك قد يتجاوز في طلبه إشباع تلك الحاجة تجاوزا كبيرا بحيث تتطلب الكثير والكثير لإشباعها . ومن هنا فإن الناس عندما يواجهون بظروف يفتقدون فيها من الموارد ما يشبع حاجاتهم الدنيوية فإنهم قد يتعرضون للمشكلات ، ولكن درجة الشعور بالإحباط وحجم العدوان المصاحب لهذا الشعور يتوقف على عوامل متعددة.
ويبدو لنا أن التصور الإسلامي يقوم على أن أهم هذه العوامل - مرة أخرى - هو نوع صلة الإنسان بربه ، فالإنسان الذي يوقن بأن له ربا يملك خزائن كل خير في الأرض أو في السماء ، وأنه الكريم المرتجى عفوه والمأمول عطاؤه ، ولكنه أيضا يؤمن بأن الله يعطى ويمنع بقدَر وفقا لحكمته وعلمه بما يصلح خلقه ، فإنه لابد أن يوقن إما بقرب الفرج في العاجل وبضمان التعويض عما فاته في الدنيا ، وإما بالأجر العظيم الذي وُعده الصابرون في الآخرة ، بما يؤدى إلى الاطمئنان النفسي الذي يقلل معدلات التوتر والإحباط والعدوان - التي تصاحب بشكل طبيعي نقص إشباع الحاجات - بل وقد تؤدى إلى استبعاد مثل هذه المشاعر والاتجاهات كلية في بعض الحالات وعند بعض الأشخاص .
ونود أن نذكِّر هنا بأن غرضنا الأساسي في هذا البحث ليس هو حصر أو استنفاد العوامل المؤثرة في إحداث المشكلات النفسية/الاجتماعية بقدر لفت الأنظار إلى العوامل الفريدة التي يتميز بها التصور الإسلامي عن التصورات الوضعية الشائعة بيننا اليوم ، بما يؤدى - إن شاء الله تعالي - إلى مناقشة تلك الصياغات وإجراء الحوار حولها ، بما يمهد الطريق أمام إجراء الدراسات والبحوث التي تختبر تلك الأطر النظرية .
الخميس مايو 09, 2013 10:32 pm من طرف قداري محمد
» استخدام طريقة العروض العملية في تدريس العلوم
الخميس أبريل 18, 2013 10:26 am من طرف قداري محمد
» Ten ways to improve Education
الخميس فبراير 21, 2013 8:44 am من طرف بشير.الحكيمي
» مقتطفات من تصميم وحدة الإحصاء في الرياضيات
الثلاثاء يناير 29, 2013 8:30 am من طرف بشير.الحكيمي
» تدريس مقرر تقنية المعلومات والاتصالات
الأربعاء يناير 02, 2013 7:49 am من طرف انور..الوحش
» تدريس مقرر تقنية المعلومات والاتصالات
الأربعاء ديسمبر 19, 2012 10:00 am من طرف محمدعبده العواضي
» الواجبات خلال الترم 5
السبت أكتوبر 06, 2012 11:12 pm من طرف بشرى الأغبري
» الواجبات خلال الترم4
السبت أكتوبر 06, 2012 11:11 pm من طرف بشرى الأغبري
» الواجبات خلال الترم3
السبت أكتوبر 06, 2012 11:10 pm من طرف بشرى الأغبري