تطور قياس الذكاء تطور قياس الذكاء

تطور قياس الذكاء
كان من الملامح المميزة لحركة القياس في التراث الإسلامي تلك المحاولات التي طورها عدد من كبار الأطباء لاختيار الأطباء الجدد، وتحديد الكفاءات الطبية القادرة على الوفاء بمهنة الطب، وقد كانت بداية الاهتمام باختبار الأطباء من قبل لجان محددة من سلطة الخليفةفي عهد الخليفة المقتدر، حيث أصدر مرسوماً يمنع أي طبيب من ممارسة مهنة الطب، إلا بعد أن يمتحنه سنان بن ثابت، وقد صدر هذا المرسوم على غرار موت أحد المرضى نتيجة لارتكاب أحد الأطباء خطأ كبيراً في معالجته، وتجدر الإشارة إلى أن العمل بهذا المرسوم قد استمر في الدولة الإسلامية في معظم الأمصار حتى نهاية القرن السابع الهجري، وفي هذه الفترة ساهم عدد كبير من الأطباء أمثال: يوحنا ابن ماسويه، وحنين ابن إسحاق، وأبو بكر الرازي، وإسحاق الرهاوي في وضع المعايير والأسئلة التي ينبغي أن يمتحن فيها الطبيب ويمثل هذا الاختبار في وقتنا الحاضر إختبار الهيئة الطبية .
فتعتمد الفكرة الأساسية لقياس القدرات العقلية على الفروق الفردية في مستويات النشاط الذي يقوم به العقل، وبذلك تعتمد النشأة الأساسية لقياس القدرات العقلية على نشأة البحث في النواحي الوصفية والكمية لهذه الفروق،وقد واكبت حركة قياس القدرات العقلية بداية القرن التاسع عشر حيث شهد هذا القرن القياس ومحاولاته للوقوف على قدميه وذلك عندما بدأ الفسيولوجيون والبيولوجيون قياس مختلف السمات الإنسانيةبما فيها الذكاءالذي أدى إلى ظهور اختبارات الذكاء.
بالرغم من أن ابتكار اختبارات الذكاء ربما يُعدُّ أحد التطورات السيكولوجية المهمة في القرن العشرين، إلاّ أن محاولات التفكير في طبيعة الذكاء تمتعت بتاريخ قديم. فالذكاء حتى بداية القرن التاسع عشر كان يعدّ من المفاهيم الفلسفية التي لا تخضع للدراسة العلمية.
فعلى صعيد المدرسة الفرنسية (ايتارد، اسكيرول، سيجان، بينيه) حيث بدأ الاهتمام الفرنسي بالذكاء بالاتجاه نحو فئة ضعاف العقول، عندما حاول الطبيب الفرنسي ايتاردItard)) في أوائل القرن التاسع عشر تدريب الطفل المتوحش المعروف باسم طفل أفيرون، ثم قام بعده الطبيب أسكيرولEasquirol)) عام (1837) بتأليف كتابه الشهير والذي يتكون من جزأين بعنوان "الأمراض العقلية"Mental Illness)) حيث ميز فيه بين الجنون Sanity and Madness)) والضعف العقلي(Feeble Mindedness). ويعود الفضل إلى أسكيرول Easquirol)) في إمكانية البرهنة على وجود الملكة العقليةMental-Capacity)) وعلى مدى قوتها من وجود نتوءات في الجمجمة.ثم جاء الطبيب الفرنسي سيجانSuigan)) عام (1837) ليقود حركة تدريب ضعاف العقول مستخدماً الأسلوب الفسيولوجي(Physiological Technique) في تدريب الحواس والعضلات، كما قام أيضاً بتصميم لوحة خشبية للأشكال يضعها المفحوص في أماكنها بسرعة قصوى، وأصبحت تستخدم في نطاق الاختبارات العملية.
وبقيت اهتمامات علماء النفس في فرنسا محصورة بالجوانب الإكلينيكية، إلى أن جاء "ألفرد بينيه" الذي يعده الكثيرون أباً بحق لحركة اختبارات الذكاء الحديثة. ففي عام 1904 طلب وزير التعليم في فرنسا من عالم النفس ألفرد بينيهBinetوزميله الطبيب النفسي سيمونSimon اقتراح كيفية التعرف إلى الأطفال الذين لا يستطيعون التعلّم بكفاءة في الفصول المدرسية العادية. لذلك قام كل من بينيه وسيمون ببناء أول مقياس للذكاء يشتمل على 30 مشكلة مرتبة ترتيباً تصاعدياً -بحسب درجة صعوبتها–وتتطلب القدرة على الحكم، والفهم، والتعليل ونشر هذا المقياس عام 1905، وتمت مراجعته وتعديله عامي 1908-1911 استناداً إلى البيانات الإمبيريقية التي استمدت من تطبيق المقياس على طلاب المدارس الفرنسية. وأصبح المقياس يشتمل على عدد أكبر من الاختبارات الفرعية التي تم تصنيفها في مستويات عمرية مختلفة.
أما في إنجلترا، فكان من أوائل المحاولات التي أدت إلى وضع المعالم الرئيسة لقياس الذكاء قياساً كميًّا على أُسس علمية منظمة جهود العالم البيولوجي الإنجليزي فرانسيس جالتونGalton (1822-1911)الذي كان له الفضل في استخدام الإحصاء لتحليل نتائج الاختبارات، وهو من أتباع داروين Darwin،ففي سنة (1869) قام جالتون Galton)) بتأليف كتاب تناول فيه توارث العبقرية Inheritance of Genius))، وأسس مختبراً أجرى فيه العديد من الاختبارات النفسية، وكان وزملاؤه يعتقدون أن الذكاء ثابت ومتوارث، وأن ما يعرفه الإنسان يأتيه عن طريق الحواس، وبالتالي فإن الحواس السليمة تعني في رأيه العقل السليم).
وعلى الصعيد الألماني، فتعود البدايات الأولى لقياس الذكاء في المختبر النفسي للعالم ويلهلم ماكس Wilhelm Max)) الذي بين هو وطلابه تأثر النمو العقلي بالمستويات العقلية المختلفة للأفراد، فهو يقف مبكراً عند ضعاف العقول ويعتدل عند العاديين، ويستمر لفترة أطول عند المتفوقين.
أما العالم الألماني كرايبلنKraepelin))، فقد اهتم بدراسة علم النفس المرضي، وبخاصة حالات الضعف العقلي، حيث حاول في عام (1889) استخدام مجموعة من الاختبارات التي غلب عليها الطابع العقلي بدلاً من الحس الحركي الذي تميزت بها اختبارات جالتون Galton))، وفي عام(1891) قام كرايبلنKraeplein)) بتطبيق مجموعة من الاختبارات على الأطفال، وكانت تتصف بالتنوع والشمول والملاءمة مع ما يستخدم في وقتنا الحاضر، وتبع كرايبلن تلميذه أورنOehrn)) الذي صمم عدداً من الاختبارات لاستخدامها في دراسة العلاقات المختلفة بين الوظائف النفسية،كما أنشأفونت Wundt)) أول معمل لعلم النفس التجريبي في لبزج في ألمانيا سنة (1879)، حيث قام بدراسة الإحساسات باختلاف أنواعها من بصرية وسمعية ولمسية، وقد استخدم لهذا الغرض اختبارات حسية بسيطة ،وقام ابنجهاوس، بتصميم ثلاث اختبارات للأطفال في المدرسة، تناولت الجانب العقلي لديهم.
ويعد شترنStern وهو أحد علماء النفس الألمان أول من اقترح مفهوم نسبة الذكاء (IQ)Intelligent Quotient التي تدل على النسبة بين العمر العقلي إلى العمر الزمني، وضرب القيمة الناتجة في 100، واستخدمت هذه النسبة في مقياس بينيه الذي تم تعديله عام 1908، وفي إيطاليا،نشر العالم سانكتسSanctis)) مجموعة من الاختبارات للتعرف إلى ضعاف العقول من ذوي الأعمال ما بين (7-16) سنة، وقام فراريFerrari)) ببناء عدد من الاختبارات الفسيولوجية لتستخدم مع المرضى المصابين ببعض الأمراض النفسية.
وفي أمريكاانتشر قياس الذكاء بشكل كبير، فظهر عالم النفس جيمس كاتل (Cattell) (1860-1944) الذي درس علم النفس التجريبي في جامعة ليبزج في ألمانيا، وكان واحداً من تلاميذ ويلهلم فونت (Wundt) مؤسس معمل علم النفس التجريبي في ألمانيا عام 1879، وأجرى بحوثه بعد حصوله على درجة الدكتوراه بالاشتراك مع جالتون، وكان أول من استخدم مفهوم “الاختبار العقلي Mental Test "عام 1890. غير أنه اعتبر القدرة العقلية العامة تنعكس في التمييز الحسي، وزمن رد الفعل وغير ذلك من الوظائف النفسية البسيطة، وكان أحد المهتمين بالفروق الفرديةحيث أستفاد كاتل من جهود جالتون، واهتمامهبالأساليب الإحصائية في استخدام هذه الأساليب كوسيلة مهمة للبحث في مجال الفروق الفرديةوهو أول من استخدم اختبارات جمعية في اللغة الإنجليزية، وقد بنى اختبارات الذكاء متحررة من الثقافة Culture Fair))، كما قام كاتل Cattell))وزميله كلارك Clark))بقياس عدد من الظواهر النفسية،وقام لويس تيرمان Terman وهو أحد علماء النفس بجامعة ستانفورد عام 1916 بمراجعة مقياس بينيه، وترجمته إلى اللغة الإنجليزية، وأطلق عليه مقياس ستانفورد بينيه للذكاءStanford – Binet Intelligence Scale.
تبع ذلك استبدال مفهوم نسبة الذكاء (IQ) بمفهوم نسبة الذكاء الانحرافية (DIQ)Deviation IQ التي اقترحها ويكسلرWechsler عالم النفس الأمريكي في مقياسه الذي أعده لقياس الذكاء، وهو اختبارات فردية، ويسمى مقياس ويكسلر –بلفيو للذكاء Wechsler – Bellevue Inteligence Scaleنسبة إلى مستشفى بلفيو للأمراض النفسية التي كان يعمل بها بمدينة نيويورك.
فقد اتجهت جهود علماء النفس وبخاصة آرثر أوتيس Otisوكان مسئولاً عن دور نشر عالمية، وميلر Millerبجامعة مينيسوتا، وثورنديك Thorndikeبجامعة كولومبيا، وتيرمانTerman ، إلى بناء اختبارات جماعيةGroup Tests.
وقد شجع على ذلك قيام الحرب العالمية الأولى التي تطلبت فرز، وتصنيف مئات الآلاف من المجندين في الجيش في وقت قصير. لذلك تمّ إعداد أول اختبار جماعي لقياس الذكاء عام 1917ويسمى اختبار ألفا Army Alpha Testوهو اختبار لفظي، ونظراً لأن بعض المجندين في ذلك الوقت لم يكن مستواهم في القراءة جيداً، فقد تم إعداد اختبار جماعي آخر مناسب للأميين ويسمى اختبار الجيش بيتا Army Beta Testوهو اختبار غير لفظي،وقد اختبرت أعداد كبيرة بهذين الاختبارين عامي (1917، 1918)، وبحلول عام (1922) بلغ عدد اختبارات الذكاء الجماعية المنشورة 44 اختباراً.
وعندما قامت الحرب العالمية الثانية، انتهز علماء النفس العاملين بالجيش التطور الذي حدث في بحوث القياس العقلي وأعدُّوا اختباراً للذكاء يعرف باسم اختبار التصنيف العام لأفراد القوات المسلحة (Army GeneralClassification Test) AGCT طبق على ملايين الجنود عند التحاقهم بالجيش، وكان يشتمل على أربع صيغ متكافئة يتطلب تطبيق كل منها ساعة واحدة تقريباً. كما أعدت صيغ أطول للاختبار لكي يمكن تقسيم أداء المختبر إلى أربعة أقسام هي: القدرة اللفظية، والفهم المكاني، وإجراء العمليات الحسابية، والاستدلال الحسابي. وقد حلّ اختبار التأهيل للقوات المسلحة (Army Forces Qualification Test) AFQT محل هذا الاختبار بعد ذلك.
فهذه نبذه بسيطة عن تطور حركة قياس الذكاء في الدول الغربية حتى استفادوا من ذلك في تصنيف طلابهم وجنودهم ومرضاهم ،وانتشرت عندهم في الفترة الحالية تواجد كثير من المقاييس النفسية ،فأين موقعنا من ذلك فقط التقنين والتطبيق ،لا نشك ان هذه هي نقطة الانطلاق في فهم المقاييس وبنائها ولكن اتمنى ان تظهر في مجتمعنا جمعيات أو مؤسسات خاصة في بناء المقاييس التي تستفيد منها المدارس والمستشفيات والمصانع والجامعات وغيرها،كما لا نغفل عن جهود وزارة التعليم العالي في تبنيها مركز القياس والتقويم ، ولكن هذا لا يكفي بل نريد أكثر من أبناء المجتمع

ملوك سنحان أحمد
مجال قران